لو أن التراب يتكلم لرفض أن يستقبل تلك الأجساد الكثيرة التي تملأ قلبه بالمعاناة، وقد صدق الشابي عندما قال على لسان الأرض: ولولا أمومة قلبي الرؤوم… لما ضمت الميت تلك الحفر.العرب لمياء المقدم [نُشر في 2017/09/21، العدد: 10758، ص(21)] لم يخطر ببالي يوما أنني سأواجه فكرة الموت بهذه الحدة. عندما توفيت أمي كان أكثر ما يؤلمني ويذهب بعقلي هو أن تلك المرأة التي كانت منذ قليل تمشي بيننا بلحمها وشحمها، جارّة خلفها الهواء والضوء والحب، ترقد تحت التراب. آلمني جدا أن أتخيل ذلك حتى كدت أحفر التراب بيدي العاريتين وأخرجها. يظل الموت أمرا نظريا قاسيا لأنه يعني النهاية والفقد والفراق، لكنه يصبح حقيقة ملموسة ومؤذية عندما نوراي الذين نحبهم التراب. في ثقافات مغايرة ابتكروا أساليب أخرى، أو ربما هي أساليب متوارثة، لتغييب أجساد الموتى، أشهرها على الإطلاق حرقهم بالنار وذر رمادهم في مكان يوصون به بأنفسهم. لوهلة تبدو هذه طريقة أشد قسوة وعنفا، لكنها أيضا عملية سريعة، تنهي كل شيء بسرعة وتحول من نحبهم الى حفنة من رماد يأخذها الريح في اتجاه مجهول، فلا قبر يعيش بيننا كأنه واحد من أفراد العائلة، ينمو ويكبر ويهرم، ولا عظام تتآكل ولا أمهات يتمددن تحت طبقات سميكة من تراب، نعجز عن تحريكها لإخراجهن. أفكر أحيانا: أهذه هي كل الخيارات المتاحة؟ أن ندفن تحت التراب أو نحرق؟ ألا توجد بدائل أخرى أقل قسوة على قلوب الأحياء؟ ماذا لو حنطنا أمواتنا، مددناهم في صناديق زجاجية، وهم في كامل زينتهم، عيونهم دافئة كعادتها ووجوههم صافية أليفة، ووضعناهم في ركن من البيت؟ هل كان الأمر سيكون أهون علينا؟ ماذا لو حولناهم الى تماثيل من جبس وأوقفناهم في الحدائق والحقول يحرسون الأشجار ويطردون الطيور عن ثمارها؟ أتخيل عالما سكانه نوعان: الأحياء الماشون على أقدامهم، والتماثيل البيضاء الواقفة على حافة الطرقات وفِي الحقول وبين الأشجار، عالما مشتركا يتقاسمه الأموات والأحياء بنفس القدر. في أمستردام التي أقيم قريبا منها، ابتكروا متحفا غريبا لم أجرؤ على دخوله ولو مرة رغم أنني أدير رأسي باتجاهه كلما مررت من أمامه. اسمه متحف الأجساد، ويمكن لأي شخص أن يترك وصية ليتبرع بجسده للمتحف قبل موته. لوهلة تبدو فكرة المتحف مرعبة، ولا تقل بشاعة عما تقوم به داعش، فهم يقومون بسلخ جلد الميت وإفراغ معدته وعينيه ورئتيه وقلبه وتحنيط اللحم الأحمر في حركات فنية وقفزات هوائية مختلفة. رأيت بعضا منها في الصور، وللحقيقة ليست سيئة تماما، ربما بسبب اللمسة الفنية التي تضفى عليها وتلك القفزات التي تجعل الميت يبدو وكأنه يحلق أو يرقص. الجسد عبء كبير، سواء في حياته أو موته (هل تموت الأجساد فعلا، أم أن الأرواح هي التي تموت؟). في الحياة هو المادة الثقيلة التي نجرها خلفنا أينما ذهبنا، تربطنا وتقيّدنا وتثقل علينا بآلامها ومتطلباتها، وفِي الموت لا نعرف ماذا نفعل بتلك الكتلة المتراكمة من اللحم والدم الممدة بيننا بلا حراك. لو ترك الأمر لي، لاخترت تذويب الأجساد في سائل حمضي، تماما كما كان يروى عن بعض الحكام الجائرين والدكتاتوريين الذين كانوا يضعون أعداءهم في سائل نووي فيختفون بالكامل. فلا يبقى شيء ليأكله التراب أو تذره الريح. أليس هذا ما يحدث للأرواح التي تختفي تماما كأنها لم تكن أبدا، لماذا نستكثره على الجسد، هذا الغياب التام الذي يحرر الأجساد من كينونة قهرية فائضة؟ العدم هبة رائعة، ولهذا السبب ربما استفردت بها الأرواح دون الأجساد. ولو أن التراب يتكلم لرفض أن يستقبل تلك الأجساد الكثيرة التي تملأ قلبه بالمعاناة، وقد صدق الشابي عندما قال على لسان الأرض: ولولا أمومة قلبي الرؤوم… لما ضمت الميت تلك الحفر. كاتبة تونسيةلمياء المقدم
مشاركة :