ورحل المغترب الستيني | د. عائشة عباس نتو

  • 8/22/2013
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

المغترب الذي غادرنا مثل هذا الفجر، ولم يكن أحد فينا يجرؤ على أن يقول له وداعا.. هل تذكرونه؟! هل تذكرون ذلك القارئ المثقف الذي كان يمنحنا أثناء الصفقات التجارية مودة وشجناً، وشوقاً وخبزاً وياسميناً، ويفتح نقاشات عن وطنه فلسطين وأرضها، وزيتونها وحجرها، الذي جلبه ليُزين بيته ها هنا؟! هل تذكرون من كان يغلي القهوة السوداء بنفسه في بعض الأحيان، ويغمز بالمعاني ليستدرجنا للحظة صفاء يومية، ليتحدث عن أمه الفلاحة الفلسطينية، ذلك الكادح القادر دوماً على اصطياد التفاصيل المدهشة والشخصيات التي تواجه الدنيا، ليست مواجهة قدرية بقدر ما هي مواجهة إنسانية؟! إنه مَن أَحَب الحَرْف، وعرف كيف يهرب إليه من إحساس الغربة، ومهنته التي لم يتآلف معها، فقد كانت فقط للعيش وتربية أولاده. كان يشرح الكتب، يروّضها ويُحوّلها إلى بوح وسُحب تهطل عسلا ونعاسا، وماسا جميلا وربيعا يلغي الخريف، وزجاجة عطر تعيد النسيم للنفوس، كرائحة حبق خجولة، في حين كان يعمل على إتمام صفقة. إنه من كان يطرق أبوابنا بلا موعد في «نقطة حوار»، ويأخذ قلوبنا بلا استئذان في ظلاله. إنه من عاش من أجل الأرض وساوى بين الأرض والموقف، وشبّه من ينتمي إلى الأرض بلا موقف؛ كمن باع جسداً في ناصية الرخص. إنه من كان ينصحنا دوماً بتحاشي الهمّ، والبعد عن الوهن، وتعاطي العشق والأشواق واستنشاق الصبر، وكان يطلب من أخته هاتفياً الصبر، حين كانت تخبره كيف أن الاحتلال حكم على ابنها بـ25 عاماً، هذا الاحتلال الذي اغتصب أرضهم وشرّدهم في أنحاء العالم. كانت أخته تُبشّره بأن الحكم فقط خمسة وعشرين عاماً.. فكنتُ أستهجن كلمة "البشارة"، أي بشارة هذه التي هي غير قابلة للتفاوض أو للتنازل، فيشرح بشجن وحزن مقيم، وبإيمان رغم تغيّر الأمكنة والظروف، بأن الحكم معناه هناك أمل في الخروج من خلف قضبان سجن المغتصب. نعم، أُذكّركم اليوم بذلك المغترب، وأنا أعلم أنه أقوى من أمواج النسيان، وأقوى من أن يُمحى من الذاكرة، فهو خالد خلود كلماته ومعانيه.. صديقنا الذي جمعنا دموعنا يوم مغادرته عنّا، فكانت بحجم فقده ولم نفلح، وحاولنا أن نفلسف رحيله ونلتمس له ألف عذر حتى نتجرّع صدمة الرحيل لنُواجه بعد ذلك مرحلة العجز المطلق. كان الأسى أن تفقد صديقاً حقيقياً، وملهماً لك في الألوف والحروف، فقد كان شريك الحرف والعمل. كان يُرطِّب أيامنا بالكتب التي يجلبها من رحلاته، ولا تمر رحلة من رحلاته وهو يطوف الخليج دون أن نتواصل أو نلتقي، أو نسافر معاً، رحل المغترب وترك بقايا صور. رحل المغترب الستيني إلى القوم الذين كان يلعنهم في حديثه ولا يُحبهم بروح معفرة ولسان يخابط يميناَ ويساراً، يلعن المحتل في سرّه وعلنه، ويعرف معرفة تامة أن للغرب يداً في فقدان أرضه، لكن الغرب سيكون ملاذه. فقوانينهم تسمح له أن يكون مواطناً، له حق الانتخاب والعلاج والتعليم والتوظيف. سلام عليك يا سيدي، فقد علّمتني أن ما نحياه عدم، وأن ما نُمارسه عبث، وأن ما نتلذَّذ به عرض زائل، وأن ما نفرح به أحياناً لا يدوم، وأن كل الطرق لا تؤدي إلا لفراقكم. A.natto@myi2i.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (77) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain

مشاركة :