قد يكون من الخطورة بمكان على الكاتب أن يستهلّ بكتابة سيرته الذاتية، لأنّه سيعدّ كاشفا لأسرار حياته، ويثير التساؤل عمّا سيأتي لاحقا.العرب هيثم حسين [نُشر في 2017/10/02، العدد: 10769، ص(15)] هل تكون الرغبة في الكتابة عن الطفولة عبارة عن محاولة لاسترداد أجوائها التي قد يعتبرها صاحبها ملعبه الأثير، ولا سيّما أنّ الذاكرة تكون خير معين له في العودة إلى معايشة ما كان عبر التخييل والاستذكار؟ هل انقطاع خيط الطفولة وتبدّد ما توصف بأنّها براءة الطفولة من محرّضات الكاتب على استدعاء مفارقات ومحطّات منها؟ تشكّل الطفولة منبعا ثريّا للأدباء، هي زادهم الأدبيّ والتاريخيّ، يعودون إليها بين العمل والآخر، وكأنّ الحنين إلى ذاك الطفل الذي كانوه يظلّ متّقدا في وجدانهم يدفعهم إلى استدراجه إلى زمن مختلف، يمضون برفقته أوقاتا مختلفة، يعيدون الاعتبار لما فقدوه من خلال التذكّر والتخييل. تتذكّر السويسرية من أصل هنغاري أغوتا كريستوف (1935 – 2011) في سيرتها “الأمية” لقطات من طفولتها، تنهل من تلك الفترة التي تعدها ينبوع حكاياتها وأسرارها وآلامها وأحلامها، وتشير إلى أنها حين كانت صغيرة كانت تحب رواية قصص من نسج خيالها. وكانت تستلم زمام الحكايات من جدتها، وهي تقول لها “أنا من سيروي الحكايات، ولست أنت”. وتذكر كيف أنها كانت تبدأ بجملة، أيّ جملة، ويتوالى السرد من دون نهاية. قد يكون من الخطورة بمكان على الكاتب أن يستهلّ بكتابة سيرته الذاتية، لأنّه سيعدّ كاشفا لأسرار حياته، ويثير التساؤل عمّا سيأتي لاحقا، وقد كان السوريّ الكرديّ سليم بركات من الجرأة أن استهلّ أعماله السرديّة بسيرة طفولته وسيرة صباه، “الجندب الحديديّ” و”هاتِ النفير عاليا هاته على آخره”، ثمّ دخل عالمه الغرائبيّ، بعيدا عن سيرته، وكأنّه قطع علاقته مع السيرة ودخل مغامرته التي بلورت هويّته الأدبية المتفرّدة. وقد يكون كتاب “الأيّام” السيريّ للراحل طه حسين (1889 – 1973) من أكثر كتبه حميميّة وصدقا، ذلك أنّه أزاح الستار عمّا كان يعترك في روحه ووجدانه، وكشف عما كان يجول في خياله، رأى بعين العقل وروى ما كان على لسان الطفل الذي كانه، فجاء عمله مؤثرا عابرا للزمن، متجدّدا مع كلّ قراءة. عودة الكاتب إلى طفولته، ليست كعودة الشيخ إلى صباه، هي عودة يستقي منها باحثا عن العبر، يظهّر صورها المخبوءة في ذاكرته، يجري إلى زمن الحلم والبراءة، يبحث عن أمان مأمول، وعن دروس مكتسبة من الحكمة التي يسرّبها الزمن إليه، معلنا أنّ الطفولة تؤبّد في كيان المرء، ويستحيل لجم الطفل القارّ في النفس أو تقييده لأنّه سيجد متنفّسا للتجلي والظهور.. وهذه الطفولة هي منال الكاتب وملاذه في وحشته وسلاح من أسلحته لقهر الزمن ومآسيه. كاتب سوريهيثم حسين
مشاركة :