الشاعر التونسي محمد الهادي الجزيري الذي يفتح لنا نوافذ قلبه وأبواب بيته لنكتشف مرة أخرى جوانب إبداعية خفية من تجربته الإبداعية.العرب عبدالمجيد دقنيش [نُشر في 2017/10/05، العدد: 10772، ص(15)]الشعر مرض والشاعر كالماء يجر كل شيء متشبثا بحبال الحياة المتأرجحة دوما على المجهول. ومتماهيا مع ذاته التواقة أبدا إلى كسر القيود ونقش الكلمات والقوافي على حجر الوجود والدوالي، يطل علينا الشاعر التونسي محمد الهادي الجزيري في كل مرة من شرفة الشعر بأغنية جديدة وأمثولة متفردة تنفتح على الأمل والحب والفرح والوجع والشجن وكل متناقضات الحياة وإرهاصات الكائن البشري. ورغم تعرضه في الفترة الأخيرة لوعكة صحية خطيرة وبقائه في حالة “موت سريري” لأكثر من سنة، مازالت روح الإبداع والتمرد تسكن الجزيري طائرا متفردا معاندا متغنيا بأنشودة الحياة وملحمة التحدي التي رددها قبله درويش “هزمتك يا موت الفنون.. هزمتك يا موت الفنون”. الشعراء والخلق نبدأ حديثنا مع الجزيري حول ديوانه الجديد “نامت على ساقي الغزالة” الذي يرى أنه يعكس تجربته في الحياة فهو، كما يقول، لا يكتب إلاّ ما يعيشه وما يخوض فيه. فالشعر بالنسبة إليه شرفة أطلّ منها على العالم بأوجاعه وأشجانه وأفراحه إن وُجدت، فكلّ قصيدة في الديوان كُتبت وانتهت حسبما شاءت. أي إنّه ليس وصيّا على القصائد إن وردت مميّزة بتكثيفها أم بتقصير في طولها فالقصيدة تكتب نفسها وذاك هو الشعر. نسأل ضيفنا هل مازالت للشعر اليوم مكانة ودور ومعنى في حياتنا العصرية التي سيطرت عليها التكنولوجيا ولغة رأس المال والمضاربة بفعل العولمة وتشيّؤ الإنسان، ليقول “أنا أكتب فقط. لا تهمّني هذه الأمور، أكتب كي لا أسقط في ما ذكرت، العالم كان منذ البدء ماديّا لا ينظر إلى المعاني والقيم العليا. ولولا الشعراء لتشيّأ كلّ شيء. إنّ ما قام به الشعراء منذ البداية إلى هذه اللحظة التاريخية شيء يفوق العقل. لقد منعوا تعليب الإنسان وبيعه كبضاعة. وقد فلحوا رغم العراقيل الكثيرة. وسيكونون آخر علامة تدلّ على وجود الحياة على ظهر هذا الكوكب الغارق في الدماء والأسلحة". تحصل ديوان محمد الهادي الجزيري “نامت على ساقي الغزالة” على المرتبة الثانية في جائزة الأثير الشعرية التي أحدثتها وزارة الثقافة بسلطنة عمان، يعلق الشاعر على الجائزة قائلا “أعتقد أنّ لجائزة أثير أفضالا عليّ، منها مثلا أنّها سمحت لي بمعرفة بلد كنت أجهله، فقد ابتعد عن الطائفية والنظرة الضيّقة للأمور. كما وفّرت لي فرصا كثيرة منها معرفة الناس والطاقات والرجال، أمّا هل يمكن أن تبعث جائزة شاعرا ما للوجود فلا أظنّ ذلك أبدا، فمن كان ميّتا لن يعود إلى الحياة بسبب جائزة وهميّة، وما أكثر الجوائز التّي تعطى لمن لا يستحقونها وهذا حديث طويل".الاطمئنان لعملية الكتابة والإبداع مرفوض، فعلى كل مبدع أن يجرب جميع أنواع الكتابة لعله يظفر بنصه الحلم الشعر مرض يصرخ محمود درويش في ملحمته جدارية “هزمتك يا موت الفنون..هزمتك يا موت الفنون..” وفي علاقة بما تعرض إليه ضيفنا أخيرا من وعكة صحية حادة وموت سريري لفترة، يقول “لقد كانت تجربة قاسية عرفت فيها معنى الألم والصبر والعزيمة، فالصبر كاد يتحوّل إلى شخصي ويأخذ اسمي ووجهي، فأن تعجز عن رفع يدك اليمنى إلى مستوى رأسك، وتفاصيل أخرى مؤلمة، تجعلك سجين نفسك وحبيس هواجسك. إنّ هذه المحنة التي تفوّقت عليها ستمكنني من كتابة نصوص مغايرة، فيها نزعة للتأمّل والعبرة". نسأل الجزيري عن “لحظة المكاشفة الشعرية.. والإطلالة على مدار الرعب”، كما يسميها محمد لطفي اليوسفي، وعن إرهاصات تشكل النص الشعري، ليجيب بكل تلقائية “أكتب حين أكون جاهزا لذلك، ولست أدري متى، سأجد عراقيل كثيرة في انتظاري من هنا فصاعدا، فقد تدخّل المرض في حياتي بطريقة فجئية، لكنني لا أؤمن بوجود شيطان الشعر فأنا من يكتب”. بين صرامة لحظة الكتابة وجديتها وخطورتها، وفوضوية الشاعر وتمرده على نواميس الواقع، هكذا يسير الشاعر غالبا. يقول محمد الهادي الجزيري “كن كالماء تجرّ كلّ شيء فيك. وخلفك، يكفي هذا لكي تكون قد حقّقت وجودك لحظة الكتابة والمهمّ إخلاصك لذاتك، الشعر مرض لا يصيب إلا المبشّرين بالجنون. فكن أنت وحذار من الكذب على القارئ وعلى نفسك، لتحقّق ما تطمح إليه من نصوص قد تبقى بعدك خالدة”. بعد هذه التجربة الأدبية المحترمة، نسأل الجزيري إن كان مواصلا في ممارسة لعبة عدم الاطمئنان، والتوغل في مجاهل التجريب ليقول “كنت في ما مضى متشّددا في خصوص الكتابة، قبل أن أذهب إلى العراق في سنة 1997، فاطلعت على تجارب مختلفة تصبّ جميعا في خانة الإبداع، اليوم ومع تقدّمي في الخبرة والسنّ أرى أنّ الاطمئنان للعملية الإبداعية مرفوض، فعلى كلّ مبدع أن يجرّب جميع أنواع الكتابة لعلّه يظفر بنصّه الحلم، كلّ كتابة تخرج عن هذا السياق فهي تندرج في أدب المدارس والكتاتيب ولا علاقة لي بها، أن تكتب يعني أن تتعرّى تماما من كلّ أقنعتك وكلّ ما هو مسكوت عنه، أو ابحث لك عن شغل آخر”. ونتطرق مع الشاعر إلى موضوع قصيدة النثر التي تسيّدت المشهد الشعري العربي أخيرا، إذ يرى أن الحديث عن قصيدة النثر طويل ويطول، لكنه يقرّ أنّها فتحت ما لا يحصى من الأبواب والنوافذ والكوى لمدّعي الموهبة.الشعراء سيكونون آخر علامة تدل على وجود الحياة على ظهر هذا الكوكب الغارق في الدماء والأسلحة والحروب المتلاحقة يشدد الجزيري على أن قصيدة النثر سهّلت لهؤلاء المدعين الأمر وجعلت الكتابة كمراسلة الأصدقاء أو كأبسط الأمور العاديّة. لكنّ قصيدة النثر لها أفضال كثيرة من ضمن ذلك أنّها عرّفتنا على أسماء كبيرة لا علاقة لها إلا بالشعر والإبداع. ثمّ إنّها لا دليل لكاتبها حين يدخل عالمها، فهو إمّا قاتل وإمّا قتيل. ويضيف “ليس من طبعي الحكم القاطع . لكنّ قصيدة النثر تفرض عليّ ذلك. فهي عالم جديد ومغاير للقديم من أشكال شعرية”. قبل وبعد الثورة إذا أمكننا توصيف الوضع قبل الثورة حسب عنوان ديوان محمد الهادي الجزيري "لا شيء في مكانه"، فإننا نتساءل كيف يمكننا توصيف الوضع اليوم؟ وما هو دور الشاعر والكاتب التونسي في هذا كله اليوم؟ يرى الجزيري أنّ الأمور تتحسّن تدريجيّا على جميع الأصعدة، فقد بدأت الدولة تتحرّك إيجابيا. وستواصل هذا الجهد، فقد ضاع وقت كثير في التململ والارتباك. أمّا دور الشاعر والكاتب التونسي، فسيستمرّ في التنبيه إلى كلّ الأخطار المحدقة بالغد والحلم. لكن الشاعر الحقيقيّ لن يكون بوقا لأحد خاصة بعد التجربة التي مرّ بها كلّ المبدعين. يقال إن اللحظة الإبستيمولوجية المعرفية ليست هي نفسها قبل وبعد الثورة التونسية، هذه الهزة التي حدثت أو الحراك الذي زلزل وخلخل السائد وحرك المياه الراكدة في الوطن العربي، لكن الجزيري لا يرى ذلك، فما أنتجته عبارة عن فقاقيع زائلة، كلّ اسم ركب الثورة سيسقط إن كان لا يزال راكبا، الثورة أكّدت للناس أنّ الإبداع يأتي من الداخل، من داخل النفس، وليس عملية تلصيق للفقرات وأقصوصات الجرائد قصد تأكيد الانتماء لهذا الحراك الذي كاد يأتي على كل شيء.
مشاركة :