بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وبروز الولايات المتحدة الأمريكية كأكبر قوة عسكرية في العالم، سعت الولايات المتحدة لأن تكون الثقافة هي جوهر السياسة الخارجية الأمريكية وبخاصة في مرحلة الحرب الباردة وهذا ما تم. نجم عن السياسات الأمريكية تلك تأسيس منظمات ثقافية أمريكية فاعلة ووصل إجمالي الدعم الحكومي التي يقدم لها قرابة 750 مليون دولار سنوياً. والسبب الرئيس لمثل هذا التمويل تحقيقها للمصالح الأمريكية دون الحاجة إلى الدخول في حروب عسكرية إذ إن نفقات الحروب أكبر بكثير من تكلفة الاستثمار في الثقافة. تلا تلك الرؤية تنفيذ عدد من الإستراتيجيات حققت من خلالها الولايات المتحدة عددا كبيرا من المكاسب ومن أبرز الأدوات التي فُعلت الأفلام التي تنتجها هوليود والتي تحقق لها حضورا نوعيا حول العالم إذ إنه من خلال السينما تستطيع أن تروج لمختلف مناحي الثقافة والقيم والإبداع الأمريكي. ما قامت به الولايات المتحدة ثقافيا ليس حكراً عليها بل كانت متأخرة بعض الشيء وسبقتها عدد من الدول التي قامت وتقوم بأدوار مشابهة للترويج للغتها وثقافتها وقيمها ومؤسساتها التعليمية. ومن أبرز تلك الدول المملكة المتحدة من خلال المجلس الثقافي البريطاني والذي أسس في العام 1934م والمنتشر في أكثر من 100 دولة ويتعلم فيه أكثر من 12 مليونا سنويا ويتفاعل معه عبر الإعلام الجديد أكثر من 500 مليون شخص، فضلا عن فرنسا والتي تنظم أكثر من 50 ألف فعالية ثقافية سنوياً خارجياً من خلال 500 مؤسسة ثقافية ومؤخراً الصين والتي نشطت ثقافياً وأسست 42 معهد كونفوشيوس خلال العام 2012 فقط وهذا هو جوهر الدبلوماسية الثقافية. تهدف الدبلوماسية الثقافية لتحقيق المصالح الخارجية للدول من خلال تنظيم فعاليات ومهرجانات وبرامج ثقافية إستراتيجية مشتركة مع عدد من الدول لتعزيز النفوذ ومنع أو إدارة أو تخفيف الصراع مع الدول المستهدفة فضلا عن العوائد الاقتصادية لاسيما وأن الاقتصاد الثقافي يحقق مداخيل عالية مباشرة وغير مباشرة ويمكن مشاهدة ذلك في عوائد بعض الأسواق الثقافية كسوق الفنون والمقتنيات الخاصة والذي بلغت قيمته 47 مليار يورو في العام 2013 أو على مستوى الاقتصاد الثقافي الإجمالي كما هي الحال في ألمانيا والذي يحقق 129 مليار يورو سنوياً من خلال فروع الاقتصاد الثقافي ال 11 بما فيها التأليف والنشر والمسرح والسينما وغيرها. وبالطبع الفعاليات الثقافية على المستوى العالمي تحقق حضورا عاليا في حال نفذت بشكل نوعي ويمكن مشاهدته بوضوح في رواية فيكتور هوجو البؤساء والتي ترجمت إلى 22 لغة وعرضت كمسرحية في أكثر من 319 مدينة وحضرها أكثر من 70 مليون شخص حول العالم ومثل هذا الحضور، وهذه المساعي للترويج للرواية ليسا مصادفة بل هما مساع لبث قيم معينة حول العالم من خلال الثقافة، كل ذلك يعني وبوضوح شديد أننا بحاجة إلى إعادة النظر في أهمية الثقافة وتعزيز أهدافنا الخارجية التي يمكن أن نحققها من خلال الثقافة على مستوى الشرق الأوسط والعالم الإسلامي والعالم وتفعيل الأدوات والبرامج الملائمة لتحقيقها بحسب أهدافنا الوطنية لاسيما فيما يعنى بالإرهاب وانتشار الجماعات الإرهابية ومساعيها للانتشار في الشرق الأوسط وغيرها الكثير من الأهداف التي ستحقق لنا عوائد وطنية لا تقدر بثمن على المستوى العالم وانعكاسها الإيجابي على حماية المجتمع وأمن الوطن.
مشاركة :