بحثت طويلاً في فتاوى علمائنا المرتبطة بهذا الأمر فلم أجد فتوى صريحة تحرم قيادة المرأة للسيارة، فقط كل ما وجدته عدم استحسانها من باب سد الذرائع؛ تحسباً من أن تجر إلى مفاسد أو محرمات. ولقد أذهب الأمر الملكي الكريم مخاوف علمائنا من جرائر قيادة المرأة للسيارة، ولاسيما أننا نعلم أن مجتمع الأمس ليس هو أبداً مجتمع اليوم.. ما أكثر الأكاذيب التي تمرر في واقعنا اليوم، والأقوال المطلقة العارية من أي صحة، والتي لا يعرف لها أحدهم صاحباً. بعض هذه الأقوال يطلقها أحدهم لغرض ولهوى خبيث في نفسه، وربما لأجندة معدة سلفاً للكيد لفصيل فكري، وقد يصل الأمر إلى التواطؤ مع جهة خارجية. وبعض هذه الأقوال ناتج عن سوء فهمنا، وعدم تريثنا في تلقي الكلام، فيحدث أننا نخرج به عن مساره، ونجري به إلى الناس وقد حرفنا معناه تماماً ولوينا عنقه بعيداً عن مقصده. ومن أكثر أمثلة سوء الفهم والتربص فجاجة في الفترة الأخيرة الهجمة الشرسة على العلماء الشرعيين في المملكة منذ صدور الأمر الملكي الكريم بالسماح للمرأة باستصدار رخصة قيادة للسيارة. فمنذ اللحظة الأولى لصدور الأمر والجميع تركوا القضية بجميع أبعادها الاجتماعية والأمنية، بل تركوا الاحتفاء بهذا المنجز الكبير الذي تحقق للمرأة السعودية، وأنا شخصياً أحد من كانوا يؤيدونه، وانصرفوا إلى الهجوم على علماء المملكة يتهمونهم بتحول مواقفهم من "تحريم القيادة" قبل الأمر الملكي إلى إجازته ومباركته بعد الأمر الملكي، في معرض اتهامات جائرة لا تليق بعلمائنا. ولقد بحثت طويلاً في فتاوى علمائنا المرتبطة بهذا الأمر فلم أجد فتوى صريحة تحرم قيادة المرأة للسيارة، فقط كل ما وجدته عدم استحسانها من باب سد الذرائع؛ تحسباً من أن تجر إلى مفاسد أو محرمات. ولقد أذهب الأمر الملكي الكريم مخاوف علمائنا من جرائر قيادة المرأة للسيارة، ولاسيما أننا نعلم أن مجتمع الأمس ليس هو أبداً مجتمع اليوم، في ظل التعقيدات الكبيرة التي تربك حياة الأسر في تنقلاتها، وفي ظل الأعباء المالية الكبيرة الملقاة على الأسر، الأمر الذي يجعل استقدام سائق خاص لكل أسرة أمراً بالغ الصعوبة، في ظل التغيرات الكبيرة التي تشهدها حياة الناس اليوم، فليست كل الأسر لديها المقدرة حتى على توفير مكان لإقامة هذا السائق، بعد دخول ثقافة السكن في العمائر إلى المجتمع السعودي؛ والتوسع في البناء الرأسي ليكون أحد الحلول الأساسية على مستوى العالم لأزمة الإسكان، إذ من غير الممكن، ومن غير المفروض أبداً أن يعيش المواطنون جميعاً في فلل، يضاف إلى ما تقدم حالة الانفتاح الثقافي الكبيرة التي شهدها المجتمع السعودي خلال السنوات الماضية، في ظل الابتعاث، وتدفق ملايين السعوديين على المجتمعات حول العالم، الأمر الذي حد كثيراً من مخاطر قيادة المرأة لسيارتها، أيضاً ما من شك أن وضع القوانين الصارمة الرادعة لأي متحرش؛ لضمان تهيئة البيئة الآمنة لقيادة المرأة، جميع هذه الظروف والمستجدات من الطبيعي أن تكون مطمئنة للعلماء حتى يباركوا الخطوة، ولا سيما أنها صدرت بأمر ملكي من ولي الأمر، وهذا وحده يكفي ليطمئن العلماء ويباركوا الخطوة، وهذا من فقه الواقع المتغير، فالفتاوى مقيدة بظرفها وزمانها، وبديهي أن يختلف موقف العلماء اليوم لاختلاف الظروف على نحو كبير عن ذي قبل وهذا أمر لا يمكن لأحد أن ينكره. بل إنه من الغريب حقاً أن يتحدث بعضهم متهماً مباركة العلماء للأمر الملكي وكأنه يفترض ألا يتغير رأيهم أبداً مهما تغيرت الظروف، وهؤلاء هم أنفسهم من كانوا يصدعوننا آناء الليل وأطراف النهار بأن العلماء لا يسايرون العصر بفتاواهم وآرائهم، ثم نجدهم حين استجاب العلماء لداعي اختلاف الظروف وتوافقوا مع سنة التطور شنوا عليهم هذه الهجمة الظالمة، أو كأنه كان مطلوباً من العلماء أن يخالفوا ولي الأمر أو يلمزوه بالقول، فيدفعون أمراً غير مستحب عندهم بمفسدة عظيمة هي مخالفة ولي الأمر. لكن ما يستقر لدينا من واقع هذه الهجمة الشرسة أن هؤلاء الذين يقودونها يهدفون إلى تشويه العلماء وإظهارهم أمام الناس في هيئة المتزلف لدى ولاة الأمر، وواقع الأمر أن كثيراً من العلماء منذ عقود وهم يذكرون أسباب عدم استحبابهم للقيادة، كانوا يذَيّلون حديثهم بأن هذا ليس حكماً بالتحريم، ولا يوجد في الشرع ما يحرم، وأن القرار في هذه القضية، بيد ولي الأمر، فالقوم متوافقون مع ما يراه ولي الأمر منذ البداية؛ ليقينهم بأن ولي الأمر لن يصدر أمره بالسماح للمرأة بقيادة السيارة إلا وهو يدرك تماماً أن الظروف أصبحت مناسبة، وأيضاً بعد أن يضع الأنظمة الضامنة لأن تقود المرأة سيارتها في بيئة آمنة، وهو ما كان، فلماذا هذه الزوبعة، أم أن وراء الأكمة ما وراءها. إن اختزال القضية كلها اليوم في هذه الهجمة الشرسة على علمائنا، واتهامهم بهذه القائمة الطويلة من التهم الباطلة، والنيل منهم على هذا النحو على رؤوس الأشهاد في شبكات التواصل الاجتماعي، أمر ينبغي أن تكون هناك وقفة معه، ولاسيما أن الهجمة تتجاوز أبناء المملكة إلى أطراف كثيرة خارجية ركبت موجة انتقاد علمائنا للنيل منهم بتعميم حكم ظالم عليهم، وافتراء ما لم يقولوه ولم يفتوا به، وكأن مخططا كبيراً يدبر للنيل منهم، مخطط لا ندري على وجه التحديد أي جهة تقف وراءه، لكن ما ينبغي أن نتنبه له جيداً، أن تنفيذه يتم بأيدينا من دون أن ندري، وأننا سنكون أول من سيدفع ثمن نجاحه وبلوغه أهدافه، حين ينشأ ناشئ الفتيان فينا على عدم احترام العلماء. فأفيقوا يرحمكم الله. بقي أن أوضح أن حديثي عن علمائنا المعتبرين والمخول لهم الفتوى من ولاة الأمر، وأيضاً الذين يعتد ولاة الأمر بفتاواهم. أما أصحاب الاجتهادات الخاصة، فليسوا موضع حديثنا، إذ لا تأثير لهم على صانع القرار، ولا يعتد بشطحاتهم.
مشاركة :