العداء للثقافة والمثقفين حالة تكاد تكون متأصلة في التاريخ التونسي قديما وحديثا. وقصة ابن خلدون أكبر شاهد على ذلك. فقد عاد صاحب “المقدمة” إلى تونس، مسقط رأسه، بعد غياب زاد عن العشرين عاما. وكان آنذاك قد تجاوز سن الأربعين، واكتسب خبرة واسعة بالسياسة في مجالات متعددة، وأصبح مسموع الكلمة لدى الأمراء والسلاطين وذوي الشأن. وما إن باشر التدريس في جامع الزيتونة وأصبح يحظى بتقدير من السلطان الحفصي حتى شرع الشيوخ والفقهاء بتحريض من الإمام ابن عرفة المعروف بالتزمت والتحجر في تدبير المؤامرات والدسائس ضده. وظلوا ممعنين في ذلك إلى أن نفد صبر ابن خلدون فغادر موطنه موجوع القلب ليتوجه إلى الشرق الذي لن يعود منه أبدا. محاربة الإبداع وحورب أبوالقاسم الشابي، أشهر شاعر تونسي في القرن العشرين، بشدة من قبل مثقفي زمنه واتهم بالإلحاد. فلما “يئس من المشاريع التونسية” بحسب تعبيره، أرسل قصائده إلى مجلة “أبولو” فسارعت باحتضانه ليصبح أحد ألمع أصواتها. وفي مذكراته، كما في رسائله، نلْمسُ المرارة الكبيرة التي كان صاحب “أغاني الحياة” يشعر بها جراء الحروب التي كانت تشن ضده قصد الحط من موهبته. وفي رسالة بعث بها إلى صديقه محمد الحليوي في صيف 1934، أي قبيل وفاته، يطلب منه إعادة المقتطعات التي كان قد ترجاه لترويجها بهدف الحصول على ما يمكن أن يساعده على طبع ديوانه، كتب الشابي يقول “وأما المقتطعات التي كنت أرسلتها إليك، وكلفت بها بعض معارفك، فإذا كنت تأمل زيادة الرواج فيها فأبقها عند أصحابها إلى حين، وإذا كان لا أمل لك في زيادته فأرجعها إلى ‘الحامة’ أيضا، والمجنون من يحرق نفسه بخورا أمام هذا الإله الغبي الجاهل الذي يسمى ‘الشعب التونسي’ وأنا ذلك المجنون يا صديقي”. وفي رسالة أخرى لمحمد الحليوي بتاريخ 22 فبراير 1933، كتب الشابي يقول “شكوت يا صديقي من جمود الشعب، وركود الأدب، وموت أحلام الأديب، وشكوت من قسوة هذه الحياة التي تجبر الواحد منا على أن يحيا حياة السوقة والرعاع، حياة المخافة والجمود، حياة المادة الصماء، الضيقة التي لا ترحم لا فكرا ولا عاطفة ولا خيالا، ولا تحيي مثُلا من الأمثلة العليا، أو طيفا من الحنين الأعظم، والشوق الإلهي النبيل. وهي شكاة لا تسمع في هذا القطر الضائع المغمور لأنه لا يفهمها إلا أفراد قلائل، ولا يحس بها إلا الأقل، ولا يتغنى بها إلا بضعة قلوب غريبة هائمة في مجاهل الأحلام. ولكن ما لنا وشكوى الحياة؟”.جماعة سياسية تطالب اليوم بـ"وقف" بث برنامج "جمهورية الثقافة" التنويري الذي يشرف عليه عبدالحليم المسعودي وعانى الطاهر الحداد من مثقفي عصره ما عاناه الشابي فمات كمدا، ولم يحضر جنازته غير نفر قليل من المخلصين له ولأفكاره التي ألهبت غضب المتزمتين من رجال الدين، فكفروه وحرضوا عليه العامة لضربه وإهانته في الشوارع وفي الأسواق. ولاقى أدباء “جماعة تحت السور” أمثال علي الدوعاجي ومحمد العريبي وغيرهما من الإهمال والإذلال ما عجل بموتهم جميعا وهم في ريعان الشباب. وكذا كان مصير العديد من المبدعين التونسيين في مجال الأدب والموسيقى والمسرح ومختلف الفنون سواء قبل الاستقلال أو بعده. وأذكر أن الراحل البشير خريف اشتكى لي بمرارة وحزن في حوار أجريته معه قبل وفاته بشهرين من المظالم التي تعرض لها من أهل زمنه ومن الأساتذة الجامعيين بالخصوص، والذين دأبوا على مدى عقود طويلة على تعْيير إنتاجه القصصي والروائي زاعمين أنه “أدب شعبوي ساذج”. فلما رحل عن الدنيا عام 1983 طفقوا يصنفون حوله الدراسات والأطروحات. ولم يلق الشاعر محمد الصغير أولاد أحمد العناية والاهتمام إلا عندما أصيب بذلك المرض الخبيث الذي عصف بحياته في ظرف أشهر قليلة. وعندما توفي المفكر الكبير العفيف الأخضر في باريس في صيف عام 2013 اكتفت مختلف وسائل الإعلام التونسية بإشارات سريعة إلى الفاجعة. وقبل ذلك، لم تسع الجامعة التونسية إلى دعوته ولو لمرة واحدة وهو صاحب المؤلفات الرائعة التي تشرحُ بلغة بديعة وأسلوب سلس مختلف القضايا السياسية والفكرية المتصلة بالدين تحديدا. وتوفي الفنان الكبير الهادي القلال الذي لا تزال أغانيه حاضرة في الذاكرة الموسيقية التونسية في شقة بائسة وهو بالكاد قادر على ضمان قوته اليومي. ومؤخرا رحل عن الدنيا الشاعر حسين القهواجي فقيرا معدما من دون أن تهتم بحاله وزارة الثقافة أو تسعى لمساعدته على طبع كتبه في حين تهدر مبالغ هامة في ما لا يفيد ولا ينفع الثقافة والمثقفين. سياسة ضد الثقافة وبعد سقوط نظام بن علي، اقتحم المشهد الثقافي “ثورجيون” متطفلين على الإبداع والثقافة، وباسم ثورة لم يساهموا فيها حتى ولو بقدر ضئيل، اعتلوا المنابر واقتحموا وسائل الإعلام بمختلف أنواعها ليشيعوا ثقافة الرداءة والزيف، مقصين أصحاب المواهب الحقيقية ومشوهين صورتهم عبر الأكاذيب والإشاعات المغرضة. والبعض منهم اشتط بهم الحقد إلى حدّ أنهم سعوا إلى قطع أرزاق من يعلمون جيدا أنهم يفوقونهم موهبة. التونسيون حاربوا أبوالقاسم الشابي، أشهر شاعر تونسي في القرن الـ20، شأنه شأن المفكر الطاهر الحداد وجماعة تحت السور وغيرهم ولم يتردد الرئيس المؤقت السابق محمد المنصف المرزوقي في إصدار “كتاب أسود” يتهم فيه مثقفين وفنانين بـ”العمالة” للنظام المنهار في حين أن أغلب هؤلاء كانوا من أفضل من أنجبت تونس في مختلف مجالات الإبداع الفني والفكري والأدبي. وأكثر من مرة، سعت الجماعات الأصولية المتطرفة إلى إفساد حفلات فنية وعروض مسرحية وسينمائية باعتبارها “منافية للدين والأخلاق”. وفي وسائل الإعلام السمعي البصري تُخَصصُ مساحات واسعة للبرامج السياسية التي يكثر فيها الزعيق والنعيق ويقل فيها الجدل المفيد حول مختلف القضايا التي تواجهها تونس راهنا على جميع المستويات. وأكثر من مرة تم توقيف برامج ثقافية لأنها “تزعج” أحزابا معروفة بتطرف أطروحاتها الأيديولوجية والسياسية ونزعاتها الإقصائية لكل من يعارضها ويبدي احترازا تجاه توجهاتها. وخلال الأسبوع الأول من شهر أكتوبر من العام الحالي نشرت جماعة لم تحدد موقعها السياسي بيانا تطالب فيه إدارة التلفزة الوطنية بـ”وقف” بث برنامج “جمهورية الثقافة” الذي يشرف عليه الجامعي والصحافي عبدالحليم المسعودي معتبرة هذا البرنامج “استيلاء على القطاع العام بشكل فاضح ومخز ولا أخلاقي وفاشي”. وداعية إدارة التلفزة إلى “تحمل مسؤوليتها إزاء هذا الاستحواذ الكلياني والأيديولوجي المقرف”. ويضيف محررو البيان المذكور أنه ”لا شيء يبرر الاستيلاء على وسائل الإعلام وإن كان باسم الطليعة الثقافية والفكرية والعلمية“. والواضح أن جماعة هذا البيان تملكهم الغضب من نجاح برنامج ثقافي وحيد تمكن صاحبه من دعوة 100 شخصية فكرية وثقافية وفنية جلهم من المستقلين عن الأحزاب، ومن أصحاب الرأي الحر غير المقيد بأي أيديولوجيا، للتطارح حول مختلف القضايا التي تشغل التونسيين راهنا. وكان أداء جل هذه الشخصيات في البرنامج المذكور متسما بالصراحة والموضوعية والقدرة على التحليل والتمحيص بعيدا عن أي شكل من أشكال التشنج التي اشتهر بها أهل السياسة من جل الأحزاب. كما تميز برنامج “جمهورية الثقافة” بعدد الآراء بحيث كان عاكسا بحق للديمقراطية الهادئة والرصينة والمتمدنة التي يطمح إليها التونسيون بعد ثماني سنوات أمضوها مجبرين على الخضوع يوميا لخطب بائسة وجوفاء لأحزاب متنطعة برؤى ضبابية، وغياب شبه كامل لبرامج سياسية واجتماعية وثقافية مقنعة وناجعة.
مشاركة :