امنحني تسع كلمات

  • 10/26/2017
  • 00:00
  • 16
  • 0
  • 0
news-picture

حرصُنا على نقل الجمال من شجيراتِ الورد إلى مزهريات بيوتنا، يوجعُ الوردَ، يجرحُهُ. تلك كلمات اللغة كلما اقتطفنا منها عطراً، عبقَ السَّريرُ، المخدعُ، المكتب، المكان.. وغطّت اللغةُ جرحاً جديداً في جسدها. أجملُ الجراح تلك التي لا تُشفى، تدخل معابرَ الذاكرة عندي، عندك، عندكم، تتكاثر على طريقتها مفرزة فرحاً كان في سباتٍ طويل، وجوهاً عادت من غيابٍ أو رحلة تبدأ بكلمةٍ وتنتهي بكتابٍ. تلك رحلة الكاتبة فتحية الحداد مع ثلة من عقول تجوبُ آفاق الجمال، وأقلام تعتصر الحروف ذاتها بنكهات شتّى، يسكركُ حزنُ بعضها، ويقودُك فرحُ بعضها الآخر طفلاً إلى مدينة الألعاب والخيال. معهم أمكن للكلمة نفسها أن تحرثَ النّفوس، تنتجَ من كلّ ثمرٍ صنفاً جديداً. الرّحلة أولى كلماتِ الكتاب، تسحبك كلماتٌ بعدها: السّفر، الوطن، العودة، الوقت، الغربة، الحنين التأقلم حتى ترمي رحالك في آخر المحطات، وهي الاستقرار، لتقول مع حميد العقابي: «لم أستطع إغلاق أبوابي لأستريح لكنني استطعتُ أن أغلق بابَ الرّيح». استوقفني نصّ الحداد (معادلات) تقول فيه: «الحركة في الزمان لا تؤدي بالضّرورة إلى حركة في المكان، المكان الثابت لا يؤدي إلى زمان ثابت»، عادت بي الذاكرة إلى غرفة ميلكيادس الغجري في رواية ماركيز؛ حين اكتشف خوسيه أركاديو بوينديا أن الزمن هناك ثابتٌ، وأنّه «الإثنين» على الدوام، عاجزاً عن إيصال فكرته بدقةٍ إلى أفراد أسرته، حول ماهية الزمن الذي يستقرّ بصورة أفقية؛ إذ الحياة مسرحٌ متعددُ الصالات، والعروض تجري في وقت واحدٍ، تقرؤها بدورك في صفحة واحدةٍ وتفصل بينها مئاتُ السنين أحياناً. تلك علّة الثّبات تعطبُ القلبَ، الذاكرة، الروحَ، عقارب الساعات. يغدو الزمن ثابتاً أيضاً في مكانٍ ما من الذاكرة الحية، كلما عدت إلى نقطة محددة يتوقف فيها عدّاد الدائرة المحمومة، تعود أنت أنت ويسيل الفارقُ الزمنيّ في قناة دقيقةٍ من جديد. يغدو الزمن ثابتاً في مكان واحدٍ حين تسكنُ الأحداثُ، يكرّر الأمسُ وجهه المرتدى قبل الأمس وقبلهُ وقبل قبله، تختفي العلاماتُ الفارقة في سلالة الأيام لتنجبَ ذاتَها مللاً ويأساً. في الكتابِ نصوصٌ تطردكَ من دائرة الغفو، نصوصٌ تجعلك في مواجهة ذاتكَ على طاولة صلحٍ صغيرة، ونصوصٌ تلقيك بلا رحمةٍ في بركة الدّمع. كنصّ (الحقيبة) لنجوى الروح الهمامي، ونص صحراوي لكنه أخضر لحسن الفرطوسي. تقول نجوى: «إنه احتكاك عجلات الطائرة بأرض الوطن/ الغربة. تلقفتني بعدها الأيدي من جديد لترميني في عربة. لكنّ شرخاً كان قد أصابَ رأسي، ويبدو أن شيئاً من الحنين قد تسرّب إلى الخارج». كلنا تلك الحقيبة، أرواحُنا الملأى الفارغة، تعود حين لا يكون للعودة ثمّة معنى غيرُ الرحيل، تعودُ بحطامٍ تراه ثميناً، تعودُ بحفنةٍ من رماد لجثةٍ أحرقتها المسافاتُ الطويلة. لنثقَ بحكمة الروائي العراقيّ الفرطوسي: «ليس من المعقول أن تكون مسافراً بلا حقيبة». وعجبت لتساؤلات المهاجر عند حنان عبد القادر: «أتنبت لي زعنفاتٌ تلاطم موج الحياة؟ أتُبدلُ ذاكرتي؟ أيمكن ألا أراني إذا مرّ طيفي؟ أيعقل أن يتبدّل جلدي؟ وكثيرٍ غيرها، إذاً، ماذا يقول المهجّر؟ لأجد بعض إجابة عند الكاتبة سوزان خواتمي: «اتخذتْ زوجتي قرارها بموتٍ مفاجئ» وما أحوجنا اليوم إلى قرار ذاتيّ مثله! كتاب امنحني تسع كلمات كان مادة لقائنا الأخير في نادي أعماق التابع لمبادرة الجليس، التقينا بعض كتابه: أ.فتحية الحداد، أ.حنان عبدالقادر، أ.أريج اليحيى، أ.نجوى الروح الهمامي، أ.شريف صالح. أسئلة بلا آخر ظلت تحوم في رؤوسنا، دخولُ الحدائق يلغي ساعة يدك ويسرق قلبك. لكنّ نصوص الكاتبة سوزان خواتمي، ملأت رئتيّ بفوح البنّ، همسات الفناجين ولهبها الشّفيف المتراقص، وددت حقّاً لو التقيتها لأسألها: من هي القهوة؟ خولة سامي سليقة

مشاركة :