«إني أدين» .. مرافعة تاريخية لإيقاظ الضمير الإسباني

  • 11/4/2017
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

الشارقة: محمدو لحبيب «إني أدين» هو عنوان الكتاب الجديد لصاحب السموّ الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، كتاب يأخذك من الأسطر الأولى إلى معنى حقيقي مقترن بالوثائق والأدلة للإدانة، مقدماً شهادة مختلفة ومتميزة، في ظل شح المصادر التاريخية التي تتحدث عن مأساة المسلمين الموريسكيين بعد سقوط غرناطة، والجرائم التي مورست في حقهم.منذ واقعة «الدموع والزفرات» التي أطلقها أبو عبد الله الصغير، وهو يبكي كالنساء مُلكاً لم يحافظ عليه كالرجال، كما قالت له والدته عائشة الحرة، وتاريخ الأندلس في أغلب المصادر يبدو وكأنه توقف، ولم يحفل كثير من المؤرخين بتلك الفترة بمن بقوا هناك تحت نير وجور حكم القشتاليين، ويعزو بعض الباحثين عزوف المؤرخين العرب في أغلبيتهم عن استعراض وتسجيل مأساة الإنسان المسلم هناك، لأسباب شتى من بينها نظرة بعض المؤرخين للموريسكيين في بلنسية التي سقطت قبل غرناطة، وبات أهلها مدجنين تحت الحكم الإسباني، ومستعدين لبذل كل الجهود من أجل البقاء في أرضهم ووطنهم، وبالتالي صار هناك فراغ تاريخي كبير في تتبع أثر الانتهاكات الجسيمة، التي اقترفها ملوك الإسبان وقساوستهم في حق المسلمين السكان في بلنسية أولاً، ثم في غرناطة التي شكل سقوطها ضربة قوية لأمل المدجنين في شبه الجزيرة الإيبرية في السند، الذين كانوا يعولون عليه في استرداد الأراضي الإسلامية الخاضعة للسيادة المسيحية، فضلاً عن ذلك فإن وجود مملكة غرناطة قائمة بذاتها كان كفيلاً بجعل السياسة الإسبانية، تحسب ألف حساب قبل أن تقدم على أي خطوة من شأنها التضييق على المسلمين الخاضعين للسيادة المسيحية، أما بعد سقوط غرناطة فإن سياسة التسامح تجاه المسلمين في المدن الإسبانية أخذت بالتراجع، وتنصل الملكان الكاثوليكيان فرناندو وإيزابيلا بعد ذلك بسهولة من العهود التي قطعت للمسلمين في غرناطة، والتي نصت عليها معاهدة تسليم غرناطة التي أصدرها الملكان الكاثوليكيان لأبي عبد الله الصغير وأهل غرناطة بتاريخ 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 1491 م، والموافق ل 21 من المحرم من سنة 897 هجرية، والتي نصت على حماية العقيدة والأموال والأشخاص بالنسبة للمسلمين في غرناطة.يقدم لنا صاحب السمو حاكم الشارقة، في كتابه هذا من إصدارات دار «منشورات القاسمي» لسنة 2017، شيئين مهمين جداً بالنسبة للموضوع الذي يتحدث عنه الكتاب، أولهما مادة تاريخية موثقة عن موضوع انتهاك حقوق المسلمين بعد الاستيلاء الإسباني على غرناطة، وسقوط آخر معاقل الدولة الإسلامية هناك، وثانيهما هو وثيقة قانونية مدعمة تكفي لمحاكمة من يجرؤون حتى الآن من الإسبان على غمط الموريسكيين المسلمين حقوقهم، ويرفضون حتى الاعتذار لهم عن كل الجرائم البشعة التي وقعت ضدهم.وفي مئتي صفحة من القطع الكبير وبأسلوب علمي تاريخي ممنهج ومصحوب بصور الوثائق الإسبانية الأصلية مع ترجماتها العربية، يطرح سموه عشر إدانات، اعتمدت على عشر وثائق إسبانية، يقول سموه في مقدمة كتابه عنها: «اقتنيت عدداً من الوثائق الإسبانية، وهي تعود إلى الفترة ما بين 1530م، وعام 1610 م، وهي فترة مأساة مسلمي الأندلس.بعد ترجمتها من اللغة الإسبانية إلى اللغة العربية ودراستها، اخترت منها 10 وثائق تدين فئات من الشعب الإسباني في تلك الفترة، أكان ملكاً، أوقاضياً، أو كنيسة، أوجماعة من الناس؛ لما قاموا به من جرم تجاه مسلمي الأندلس بعد أن هادنوهم فترة من الزمن، بعد توقيع الملكين الكاثوليكيين لأبي عبد الله الصغير بالتعهدات بعدم المساس بالمسلمين في عبادتهم وأملاكهم»، ويدرج سموه في خاتمة كتابه نص المعاهدة بحذافيره كملحق، ومرجع لتعزيز الوثائق العديدة التي زخر بها الكتاب، والتي تجسد بشكل عملي الإدانات العشر التي أراد سموه أن يبينها بشكل جلي لا لبس فيه، ولا كلام بعده سوى الحق وعودة الحق إلى أصحابه، ولو بعد كل هذه القرون. 10 إداناتويبين سموه بعد ذلك في المقدمة الهدف من وضع الوثائق التي اقتناها وحققها، ويشرح الإدانات العشر بعناوين ومضامين بارزة وواضحة فيقول: «لقد قمت بوضع تلك الوثائق في صورة إدانات أدين بها كلَّ من قام بتلك الأعمال الشنيعة تجاه مسلمي الأندلس، وهي بالتالي:الإدانة الأولى: الإعدام لأتفه الأسباب، الإدانة الثانية: الإهانات غير المتناهية التي تعرض لها شعب غرناطة، بعد أن قاموا بثورتهم المسلحة في مملكة غرناطة، نتيجة لاضطهاد الكنيسة، الإدانة الثالثة: مصادرة أراضي الموريسكيين المسلمين من قبل القصر الملكي، وبيعها للمسيحيين ممن وردوا على الأندلس، الإدانة الرابعة: اتخاذ أبناء وبنات الموريسكيين الذين ثاروا، والذين تتجاوز أعمارهم العاشرة والنصف للأبناء، والتاسعة والنصف للبنات، عبيداً للذين أوقفوهم، أو اعتقلوهم، أما الصغار فيستودعون عند أناس يربونهم ويعلمونهم الديانة المسيحية، الإدانة الخامسة: السجن لكثير من الموريسكيين الأبرياء، الإدانة السادسة: إجراءات التنصير على الموريسكيين وبخاصة على أطفالهم، الإدانة السابعة: طرد الموريسكيين من مملكة إسبانيا بغير رحمة، الإدانة الثامنة: مراقبة الذين لديهم تصريحات استثنائية لبعض الموريسكيين ليبقوا على الأراضي الإسبانية، الإدانة التاسعة: معاقبة كل من ارتحل إلى بلاد المسلمين، أكان للحج أم للتجارة، بفصل أولادهم عنهم وتربيتهم لدى الأساقفة ورجال الكنيسة، الإدانة العاشرة: طرد الموريسكيين من الأندلس بدون ذنب اقترفوه، فاتهموهم بأن هناك اتصالاً بينهم وبين الأتراك».يبين سموه بعد ذلك منهجه في ترتيب تلك الإدانات والوقائع المرتبطة بها فيقول: «لقد بينت بعد ذلك الوقائع التي وقعت لأسباب تلك الإدانات، والمستند الذي يثبت تلك الإدانة، في صورة وثيقة مستندية قاطعة الدلالة».بعد ذلك يبدأ سموه من خلال خبرته كمؤرخ، بعرض الإدانات، كلٌّ على حدة، ووفق منهجه الذي قدمناه سابقاً، ويستخدم لغة مكثفة بسيطة خبرية في الأغلب، توصل للقارئ الواقعة التاريخية التي أدت للإدانة ومهدت لها، بطريقة سلسلة ودون عناء، ودون أن يحس قارئه بضرورة الولوج إلى مرجع تاريخي آخر كي يفهم بعض المعطيات الواردة، ويقرن كل إدانة بواقعتها.وفي الإدانة الأولى التي تركزت على «الإعدام لأتفه الأسباب» يورد سموه الواقعة التاريخية المرتبطة بها، والتي يوثقها بعد ذلك بصورة من الوثيقة الإسبانية الأصلية التي تدعمها، وبترجمة تلك الوثيقة إلى اللغة العربية.تتحدث الواقعة الأولى التي تجسد الإعدام لأتفه الأسباب، عن إرسال رئيس أساقفة غرناطة «غاسبار دي أبالوس» في سنة 1530م، مبعوثاً للملكة إيزابيلا ليطلب منها اتخاذ إجراءات صارمة بحق الأندلسيين، وأن يحكموا بالخوف لا بالحب، ويقول سموه عن ذلك: «في عام 1530 م، أرسل رئيس أساقفة غرناطة غاسبار دي أبالوس، مبعوثاً خاصاً للملكة إيزابيلا، التي كانت تقوم بالمسؤولية في غياب الملك، بقائمة المخالفات، ليثبت للملكة أن النصارى الجدد من الأندلسيين ما زالوا على دينهم، وأنهم لا يحضرون القداس المسيحي، وطالب باتخاذ إجراءات شديدة ضد الموريسكيين، وأن يحكموا بالخوف لا بالحب، فاتخذت إجراءات شديدة صارمة ضد المسلمين. ولما حضر الملك كارلوس الخامس، أخذ ينافسها على اضطهاد المسلمين بأحكام الإعدام على أتفه الأسباب، وباتهامهم أنهم عملاء للأتراك أعداء إسبانيا».ثم يورد سموه بعد ذلك الوثيقة الأولى الدالة على الإعدام لأتفه الأسباب، وهي أمر ملكي لكارلوس الخامس سنة 1530 م يخص موريسكيي بلنسية، تتحدث عن جملة عقوبات تتفق دوماً في تنوعها على القتل والإعدام بحق الموريسكيين الذين تصفهم أكثر من مرة بالأشرار، والقارئ للوثيقة يخرج بانطباع أولي فوري بأن ذلك الأمر الملكي الجائر وضع خصيصاً لكي يشرع الإعدام لأتفه الأسباب، وأنها ليست أبداً ضوابط قانونية عادلة، تمنح للمتهم أدنى فرصة للنجاة من طائلتها، أو مراجعتها أو الخروج من ربقة عقوباتها، وهي لا تترك مجالاً من مجالات الحياة وأنشطة الموريسكيين إلا وقعت عليه عقوبات تنتهي بالموت!».الإدانة الثانية في الكتاب تتحدث عن «الإهانات غير المتناهية التي تعرض لها شعب غرناطة، بعد أن قاموا بثورتهم المسلحة في مملكة غرناطة، نتيجة لاضطهاد الكنيسة»، وهذه الإدانة توثق بالوثيقة المصاحبة لها، مرحلة الانتهاكات الشديدة التي وقعت على شعب غرناطة بعد ثورتهم سنة 1568 م.مصادرة أراضي الموريسكيين المسلمين من قبل القصر الملكي، وبيعها للمسيحيين ممن وردوا على الأندلس هي الإدانة الثالثة التي يوثقها سموه، ويمهد لها بواقعة تاريخية تتحدث عن بيع أراضي الموريسكيين المُصادرة من قبل القصر الملكي، حيث إنه وفقاً للقرار الملكي المؤرخ في 24 فبراير/‏ شباط 1571 م، فإن كل الممتلكات وكل الأراضي الموريسكية بغرناطة قد صودرت، وأضيفت إلى الأملاك الملكية، ويتحدث سموه في عرضه لتلك الواقعة التاريخية عن ثلاثة قرارات ملكية جاءت فيها تعليمات حول سير الإدارة، وتسيير عمليات بيع الممتلكات التي صودرت، لعُمال «المجلس لإعادة إعمار غرناطة».ثورة غرناطةوبرفض ممارسات العبودية التي لا تستثني حتى أطفال الموريسكيين، يقدم سموه الإدانة الرابعة، والتي يمهد لها بواقعة تاريخية تشرح أنه بعد ثورة غرناطة صدرت أوامر ملكية تقضي بأن يستعبد أبناء كل من اعتقل أو أوقف لأي أمر، حتى ولو كان تافهاً من المسلمين، وتنص على أن يكون الذكور من سن العاشرة والنصف، وأن تكون البنات من سن التاسعة والنصف، أن يكون أولئك الأطفال عبيداً للذين اعتقلوا وأوقفوا آباءهم، وأن يؤخذ الصغار منهم لتربيتهم على الديانة المسيحية.ويرفق سموه تلك الإدانة بوثيقة تحمل عنوان «فيليب الثاني، براغماتية وإعلان مملكة غرناطة فيما يتعلق بالموريسكيين»، وهي تفصل بشأن كل تلك الإجراءات المقننة لتعبيد أبناء المسلمين.وفي الإدانات الخامسة حتى العاشرة، يستمر سموه في نفس المنهج التوثيقي الذي يراعي أن تكون كل المصادر التوثيقية هي إسبانية خالصة، ويضع قبل استعراضه للوثيقة الخلفية التاريخية التي صنعت الحدث المؤلم الذي يوثقه ويدينه.في خاتمة الكتاب يضع سموه كلمات قليلة، لكنها مكثفة وواعية بحجم التجاهل والكيل بمكيالين فيما يتعلق بالمسلمين في مختلف بقاع العالم، وفيما يتعلق بالانتهاكات التي تنالهم، ففي حين يتنادى البعض من الغربيين للحديث عن الهنود الحمر وحقوقهم، بعد كل هذه السنوات التي مرت على إبادتهم والتنكيل بهم، يبدو لسموه أنه من المنطقي جداً بالنسبة للضمير الإسباني أن يعطي للمسلمين أيضاً حقوقهم، فالحق لا يسقط بالتقادم، ولذلك يختم سموه بهذه الكلمات: «وعلى ذلك أختم بيّناتي المستندية، القاطعة الدلالة، برفعها للضمير الإسباني، ليعتذر عما أصاب المسلمين في تلك الفترة، وإرجاع حقوقهم إليهم».

مشاركة :