عانت البصرة في تاريخها الحديث كما عانت بالأمس من نكسات وخيبات، واحتلالات متكررة واستحالت مربض الجيوش الغازية، وموطئ الصراع وثغرة الغزوات.العرب صباح ناهي [نُشر في 2017/11/16، العدد: 10814، ص(24)] ظلت البصرة مدينة منتهبة منذ أن ولى زمن ازدهار الحكم العربي-الإسلامي فيها، في الحقب الراشدية والأموية والعباسية، بعد أن أنشأها بأمر الخليفة عمر بن الخطاب القائد العربي عتبة بن غزوان سنة 14 هجرية ويقال 17 هجرية بعد تحرير العراق بسقوط المدائن. فالبصرة المدينة الأشهر والأولى التي استحدثها وبناها العرب بثمانمئة مقاتل رافقوا الصحابي عتبة، على أنقاض “الخريبة” إحدى القصبات قرب مدينة الزبير الحالية، و”الإبلة” التاريخية، وسيّر لها الخليفة عمر بن الخطاب السكان المدنيين على دفعات ليمصرّها لتستقر فيها أسر المقاتلين. وقد سبقت منافستها الكوفة بستة أشهر، لكي تكون البصرة مثابة العرب في فتوحاتهم في بلاد فارس نحو بلاد الهند والسند، وصارت بعد ثلاثة قرون أعجوبة الدنيا، بعد أن احتمى العرب من الطقس بزراعة النخيل وتكاثره وشق الأنهر حتى بلغت الآلاف من الأنهر الصغيرة تشق المدينة وتتفرغ من نهري دجلة والفرات اللذين يلتقيان في القرنة، أقدم سكن بشري في التاريخ الإنساني، ليكوّنا شط العرب الذي قامت البصرة عليه حتى مصبه في الخليج العربي. لكن البصرة المدينة الأشهر في التاريخ العربي-الإسلامي لم ترق لتكون عاصمة كالكوفة وبغداد وسامراء والمتوكلية، وقبلها أكد وبابل نتيجة موقعها في أقصى جنوبي العراق، بالرغم من أنها عاصمة الإقليم بجدارة، ويمتد سحرها على ساحلي الخليج العربي، لما تختزنه من سحر الجغرافيا وعبق التاريخ المعطر بمنجزات العرب المسلمين وقيمة العلوم، وقبور الصحابة والعلماء بمئات من دفنوا فيها. فقد عانت البصرة في تاريخها الحديث كما عانت بالأمس من نكسات وخيبات، واحتلالات متكررة واستحالت مربض الجيوش الغازية، وموطئ الصراع وثغرة الغزوات التي أصابتها بمقتل، جعلت أهلها والعالم يرددان المثل الشهير “بعد خراب البصرة”. فقبل أن يعرف العالم المارينات والمدن المائية والجنان وسحر الأمكنة والقصور الغناء كانت البصرة “فينيسيا الشرق” والفيحاء، ومدينة المدن، وأرض النخيل، وموئل الحمام والطيور المهاجرة، ومدينة اللغة والنحو والصرف، ومحجة الشعراء، والمفكرين وأصحاب المذاهب، منها ظهر المعتزلة، وأخوان الصفا، والحسن البصري والأصمعي والفراهيدي ونحوهم من الرموز التي لم تشفع لها لتكون عاصمة الدولة في أي من مراحلها، بالرغم من أهمية موقعها ودلالتها حتى جار عليها الزمان ودمرت أنهرها وشاخ نهرها شط العرب، وكلّت نفوس أهلها نتيجة زخف الأرياف عليها وبساطيل الجند ومدافعهم التي دكتها وخربت ملاذاتها العلمية والثقافية وأصبحت كالجمل تحمل ذهبا وتأكل شوكا. واليوم لم يشفع لها أكثر من ثلاثة ملايين برميل يوميا تخرجها من بطنها ليعتاش عليها العراق كله من شماله حتى جنوبه، وهي تئن من الفقر والعوز ومازال أهلها يعيشون في مدن الصفيح، أي ظلم هذا؟ صباح ناهي
مشاركة :