يسري السيد يكتب: صباح الخير أيها الحبيب الحزين

  • 11/16/2017
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

لا ملاذ إلا هو في غربه القاهرة.. رحل الأب ولحقته الأم، ولم يبق إلا هو الذى يربت على كتفى حين يدير الكل ظهره لي، أكاد أمشي على صفحته محلقا، وأطفو وأغوص بين قطراته وأحتضنه، أتوضأ به كلما ضاقت بي الدنيا بما رحبت، وأعترف أمامه بذنوبي لعله يشفع لي عند ربي وربه.     مِـنْ أَيِّ عَهـدٍ فـي القُـرَى تتَـدَفَّقُ؟                              وبـأَيِّ كَـفٍّ فـي المـدائن تُغْـدِقُ؟                                        ومـن السـماءِ نـزلتَ أَم فُجِّـرتَ من       علْيـا الجِنــان جَـداوِلاً تـتَرقرقُ؟ وبــأَىِّ نَــوْلٍ أَنـتَ ناسـجُ بُـرْدَةٍ  للضفَّتيْـن، جَديدُهــا لا يَخــلَقُ؟ هكذا تغنى به أمير الشعراء أحمد شوقي ونشر قصيدته على حنجرة أم كلثوم لتشدو بها ليتخلل بها نحو قلوب عشاقه في رقة، ليهيم  الكل به ويذوبون فيه، نعم تحول المكان إلى سجن والزمن إلى سجان، وأصبح هو الوحيد القادر على إطلاق سراح الروح إلى زمن مضى، وأحباب رحلوا ووفاء انعدم، وإلى مستقبل قد لا يأتي، أذهب إليه محملا ومحتشدا بآهات العشاق من قبلي ومن بعدي، مسافرا إليه ومنه وفيه، يرن في أذني صوت من السماء في صوت   الموسيقار محمد عبد الوهاب وسفينه الشاعر الرقيق محمود حسن إسماعيل وقصيدته النهر الخالد: مسافرٌ زادهُ الخيالُ.. والسحرُ والعطرُ والظلالُ ظمآنُ والكأسُ في يديه.. والحب والفن والجمالُ شابتْ على أرضهِ الليالي.. وضيعتْ عمرَها الجبالُ ولم يزلْ ينشدُ الديارا.. ويسألُ الليلَ والنهارا والناسُ في حبهِ سكارى.. هاموا على أفقهِ الرحيبِ آهٍ على سرِّكَ الرهيبِ.. وموجكَ التائهِ الغريبِ يا نيلُ يا ساحرَ الغيوبِ نعم كتبت عنه مثلما فعل الكثير من عشاقه، لكن سر أسطورته أنه يشعرك أنك وحدك الذى تعشقه ويعشقك، يهيم بك وتهيم به في لحظة تخلو من الجميع، حتى ولو كان البشر أفواجا على ضفتيه، ينظر لك هامسا بجلال: زحام و لا أحد: يا واهبَ الخلدِ للزمانِ.. ياساقيَ الحبِ والأغاني هات اسقني و دعني أهيمُ.. كالطير في الجنانِ ياليتني موجة فأحكي إلى.. لياليكَ ما شجاني وأغتدي للرياحِ جارا وأحملُ النورَ للحيارى فإنْ كواني الهوا وطارا.. كانت رياح الدجى طبيبي آه على سرك الرهيب.. وموجك التائه الغريب يا نيل يا ساحر الغيوب على ضفافه يحلو السهر، والحوار معه لا ينقطع ما دمت محافظا على أسراره، وما أحلى الجلوس تحت شجرة على ضفتيه في عز نقرة الظهيرة في يوليو، لا يتركك أبدا تتعارك مع الشمس فيستدعى ملك الرياح ليرسل لمحبيه بعض من نسمات تحتضن حوار المحبين: سمعتُ في شطكَ الجميلِ.. ما قالتْ الريحُ للنخيلِ يسبح الطيرُ أم يغني.. ويشرحُ الحبَ للخميلِ وأَغْصُنٌ تلكَ أم صبايا.. شربنَ من خمرةِ الأصيلِ وزورقٌ بالحنينِ سارا.. أم هذه فرحةٌ العذارى يجري و تجري هواك نارا.. حملت في سحرها نصيبي و طفت حيران باللهيب.. فلم تدعنى بلا حبيب آه على سرك الرهيب.. وموجك التائه الغريب يا نيل يا ساحر الغيوب كم شهد  بموجاته ووقع برقته على شهادات ميلاد قصص العشق والغرام واحتضن بنسماته آهات الهوى والجوى ولم يسلم أسرار عشاقه أو يبوح بها حتى لهم، أذوب عشقا وتتوه عنى الكلمات فينعقد لسانى حتى أجده يفك كربى بابتسامته، كلما ضاقت بي الدنيا ذهبت إليه. أسبح فيه رغم أنني لا أعرف العوم أو السباحة إلا ضد التيار، أتوضأ به من كل هم وكرب بنسماته على الشاطيء وقبل أن تحتضن ذرات مياهه وجهي، في محرابه أصلي للذي أجراه، هو لا يجري في أرض، ولايخترق جبال أوهضابا وسهولا ورمالاً وطيناً فحسب، لكنه يجري داخلي وداخل عشاقه مع الدم في العروق ومع الشهيق والزفير، أحدثه وأكاد أسمع مناجاته لي، وأناجيه بصوت عبد الحليم حافظ: ” يا تبر سايل بين شطين.. يا حلو يا اسمر.. لولا سمارك جوه العين.. ما كانت تنور يا حلو يا أسمر.. الدنيا من بعدك مُرة.. يا باقى وادينا الحياة.. دا اللى يدوق طعمك مرة.. م المستحيل ابدا ينساه يا نغمة من الخلاق.. يا نيل ذهبت إليه وتأملته وناجيته عند أول خطوة له علي أرض مصر في أقصي الجنوب، وهناك كتبت له همومي وشكواي علي ورقة نزعت حروفها من قلبي، رأيت ابتسامته الصافية وامتدت يده بحنو لم أعهده من قبل تحمل منديلا يكفكف دمعي ويضمد جرحي ويواسي همي، هو النيل الذي خلق المصريون له إلها يتقربون إليه قبل أن يعرف البشر الدين والتدين، حتي يحفظ لهم نيلهم ويفيض لهم بخيره، ولم يكن معني “حابي” وهو إله النيل عند الفراعنة سوي “السعيد أو جالب السعادة”. وهو بحق هكذا منذ ان شقه الخالق عز وجل ليجري فينا منذ مئات الالاف من السنين حتي اليوم وجري له ما جري، وشهد وكتب علي صفحته حكايات وأساطير لا تنتهي حتي جاء للأجداد أحفاد ليسوا من سلالتهم بحق وحقيقي.. كيف؟ الأجداد الفراعين كان كل منهم يستعد ليوم الحساب باغلظ الايمانات امام  رب العباد بانه “لم يلوث النيل” ولم يقتصر الأمر عند الآخره فقط بل صاغوها في اعرق قانون عرفته البشرية فيما يسمي ب قوانين الماعت أي “العدل” الـ42التي تشكل بحق شريعة لحضارة امة . ولد من رحمها الضمير قبل نزول الاديان السماوية وسبقت ظهور الوصايا العشر بحوالي 2000 سنه. هنا يوجد سر لا احد يعرف مفتاحه، النيل جرى فى بلاد قبلنا ورحل الاف الكيلومترات وقابل بشرا غيرنا كثر، لماذا لم تحدث حكايات العشق بينه وبين من زارهم قبلنا، لماذا صنعنا منه وبه حضارة، وجعلنا منه آلها قبل نزول الرسالات السماوية ولم يفعل غيرنا، هنا  تعانق النهر بأرض وبشر في سيمفونية لم تتكرر، ترى : السر فيه أم فينا؟! .. يعنى مصر هبة النيل كما قال هيرديوت، أم النيل هبة المصريين كما فعل الفراعنة؟ “دى ميتك ترياق.. يانيل يا حلو يا أسمر.. خيرك علينا مالوش أخر.. يا اللى القلوب بتعيش بهواك.. خلتنا نحكى ونتفاخر.. على الوجود كله بذكراك.. يا ريحة من الأحباب.. يا نيل.. وأهل مش أغراب.. يانيل”. نعم عبقرية الزمان والمكان توحدت هنا  عبقرية البشر التي أضافت للأرض والنهر بشكل غيرمسبوق وغير متكرر وكان نتاجها حضارات لم يكشف عن أسرار بعضها حتي الآن وأصبح من الصعبأن تقتنع تماما بجملة هيردوت الشهيرة مصر هبة النيل  انطلاقا من ان النيل جري في بلاد أخرى قبل ان يأتي لمصر ولم يحدث فيها ما حدث في مصر. عن نهر النيل ايضا ان تقول ان النيل هبة المصريين لأن لو لا النيل ما كانت حضارات المصريين وشخصيتهم. والسؤال لماذا وكيف مع كل علامات الاستفهام تحولت قصص العشق والتأليه إلى ماوصلنا إليه؟ أسئلة صعبة تحتاج إلى إجابة، حتى في حملات استرداد ما تم نهبه من أراضى الدولة لم تتوجه هذه الحملات لإعادة الاعتبار إلى النيل، مثلا متى يكون من حق النيل أن يرانا ونراه بعد أن أقيمت حول شاطئيه المنشآت الخرسانيه التى تحجب رؤيته عنا وتعتبره عورة يجب سترها عن العيون والافئده؟! فهل الأحفاد مثل الأجداد أو حتي لدينا ما نتشبث به بأننا احفادهم؟! هل نحن نقدس النيل كما قدسه الأجداد أم نهيل عليه كل ما يدنسه؟! لن أتحدث فقط عما نرميه فيه جميعا شعبا وحكومة علي طول مجراه، لأننا يمكن ببعض الجهد أن نوقف هذه الكارثة من صرف مصانع أو صرف ومخلفات بعضنا. لكن الكارثة الأخرى الأصعب… ما بنيناه علي ضفافه كأنه عورة نريد اخفاءها عن أعين الجميع ولم يقف الأمر عند أنديتنا وبعض الهيئات المصرية بل وصل الأمر لإحدى السفارات العربية أن أقامت ناديا لها على واحدة من أجمل بقاعة بالقرب من كوبري الجامعة، للأسف أصبح المواطن المصري محروما من رؤية النيل في القاهرة والعديد من المحافظات بعد أن استولت هيئات كثيرة عليه. وإذا كان لا يمكن الدخول معها في معارك لاسترداد النيل من بين أنيابها، فالحل الأسرع أن تكون هذه المنشأت تحت مستوي سطح الكورنيش بحيث يمكن لأي مواطن وهذا حقه أن يرى النيل وهو واقف على ضفافه.. هل هذا صعب؟ من يحاسب قتلة الفن الرفيع؟ يجرم القانون التجارة بالأغذية والمشروبات الفاسدة، وتفرض نصوصه عقوبات قد يراها البعض غير متناسبة مع حجم الضرر، لكن على أية حال هناك عقوبات على هذه الجريمة. لكن أين نصوص القانون التي تجرم  من قام بإفساد ذوق ووجدان وتفكير المواطنين، ومازالت الجريمة مستمرة والجاني يعمل بصفاقة؟ قد يرى البعض أن طرح هذه القضية نوع من الرفاهية المستفزة في ظل أوضاع اقتصادية بالغة الصعوبة، وأنا أرى العكس.. لماذا؟! لأن الواقع في الشارع الآن مفزع مفزع مفزع وللحديث بقية!!   للتواصل مع الكاتب yousrielsaid@yahoo.com

مشاركة :