دق جرس التليفون في مكتب الأستاذ محمد توفيق دياب، صاحب جريدة «الجهاد»، أوسع الجرائد المصرية الصباحية انتشاراً في تلك الأيام، على الخط كان محمود باشا شوقي، السكرتير الخاص للملك فؤاد. كان الغضب باديًا على صوته، بسبب مقال نشر بالجريدة التي يمتلكها «دياب»، قال سكرتير الملك: «جلالة الملك ثائر جداً بسبب مقال نشر ويرى أن فيه تطاولاً على ولي العهد وتعريضا بالملك وتدخل في شؤونه»، لكن «دياب» رفض كل الاتهامات قائلاً: «قرأته ولم أر أي تعريض بولي العهد ولا بالملك». هدأت نبرأة سكرتير الملك، لكنه طلب من «دياب» اسم كاتب المقال، لكن الأول رفض قائلًا: «ما ينشر في جريدتي مسؤوليتي، وأنا مسؤول عنه، ومن يقدم للمحكمة هو أنا وليس كاتب المقال». هذا ما رواه الكاتب الصحفي الكبير مصطفى أمين في كتابه «لكل مقال أزمة»، وخلال الواقعة، لم يكن «أمين»، أتم عامه الـ21، لكنه كان كاتبًا ماهرًا وقلمة لاذعا، وكان هذا مقاله الثاني الذي ينشره وينتقد فيه الملك وأسرته، ومن حسن حظه أن توفيق دياب رفض الإدلاء باسمه، خاصة أن والد «أمين» كان تم تعيينه في تلك الفترة وزيرًا مفوضًا في الولايات المتحدة، ولو عرف الملك كان سيفقد والده المنصب. يروي أمين :«كان توفيق دياب خرج للتو من السجن بعد 9 أشهر قضاها في سجن (قرة ميدان) بتهمة إهانة رئيس الوزراء، ولم يكن قرأ مقالتي، ولم يكن رئيس التحرير المسؤول للجريدة، وكان المسؤول قانونًا عن كل ما ينشر محمد فهمي حسين». ويقول «أمين»: «من حسن الحظ أن وقتها كانت هدنة بين الملك والوفد، وكانت جريدة (الجهاد) جريدة الوفد، وكنت أوقع هذه المقالات بإمضاء (مشاغب)، وعمري وقتها لم يصل لـ21 عامًا، لم يكن موقف دياب فريداً فقد كنت قبل ذلك نائب رئيس تحرير مجلة روز اليوسف وكتبت خبراً عن الملك فؤاد اعتبره القصر عيباً في الذات الملكية واستدعى النائب العام روز اليوسف للتحقيق معها، أسرعت أقدم لها إقرارًا بخطي أنني كاتب الخبر فمزقته وذهبت للنائب العام وتحملت المسؤولية كاملة». ويضيف: «وحدث وأعطى محمود فهمي النقراشي باشا خبراً إلى النائب العام، للأستاذ التابعي، نشره في (روز اليوسف) لكن وزير العدل والنائب العام اعتبره قذفاً وطلب المحقق من (التابعي) ذكر مصدر الخبر ليثبت حسن نيته، ووعده بحفظ التحقيق، لكنه رفض وقدم للمحاكمة وصدر ضده حكم بأربعة أشهر أمضاها في سجن قرة ميدان». وعن المقال الذي أغضب الملك يقول أمين: «كان الأمير فاروق يستعد للسفر إلى إنجلترا للدراسة فكتبت أقول: (أول ملاحظة الأمير فاروق يذهب لدراسة الشؤون الحربية في انجلترا وهذا قد يكون مفهوم في الماضي، فكان يشترط أن يكون القائد غازيًا فاتحًا لكن هذا العصر مختلف، وكم كنت أفضل أن يدرس العلوم السياسية والاقتصادية ليعرف أحوال الشعوب». وأضاف: «الملاحظة الثانية أن الأمراء المصريين قديماً كانوا يسافرون بحاشية ضخمه لكننا اليوم في زمن الديموقراطية يجب أن يختلط الأمير بالشعب ويحيط بشؤونه ويدرس أمزجة العامة، وأفضل أن يسافر الأمير كتلميذ بسيط ليعرف روح العصر الذي نعيش فيه، كما أنني كنت أفضل أن يلتحق بالجامعة المصرية فهو سيحكم المصريين لا الإنجليز». ويستكمل: «مضت السنوات وانتهى الموضوع بعد رد توفيق دياب، لكن بعد سنوات طويلة جمعتني جلسة بعلي ماهر باشا رئيس الديوان الملكي، فذكرته بالواقعة، وأنني كاتب المقال، فضحك كثيراً وقال: (المقال آثار غضب الملك فؤاد كثيرًا واعتبره تدخل في شؤونه الخاصة، لأنه من وضع برنامج تعلم فاروق». وتابع: «أخبرني علي ماهر باشا أن الملك جورج الخامس والحكومة البريطانية هما من طلبا أن يسافر ولي العهد، ووزير خارجية بريطانيا هو من اختار المدرسة على نفقة الدولة المصرية». بعد سنوات جاءت الثورة وخلع فاروق من الحكم، ويقول مصطفى أمين :«التقيت بعلي ماهر باشا بعدها، فقال لي إن أحد الأسباب التي أدت لسقوط فاروق أنه لم يتعلم، كانت غلطة كبيرة إرسالة إلى انجلترا ليتعلم فيها، كان يجب أن يبقى في مصر ويدخل الجامعة المصرية».
مشاركة :