مكتب البشرية دراما إنسانية على خلفية الانهيار العظيمتعد أفلام ما بعد الانهيار العظيم على رأس أي تصنيف أو مراجعة لأفلام الخيال العلمي، ولا شك أنه موضوعها المفضل، فضلا عن كونه متكررا حيث أنجزت سينما الخيال العلمي العشرات من المعالجات السينمائية للثيمة ذاتها، انهيار الكون أو الكوكب الأرضي من جرّاء حرب نووية ماحقة أو كوارث طبيعية أو تفشي أوبئة أو حروب وصراعات داخلية، فضلا عن غزو محتمل من كواكب أخرى.العرب طاهر علوان [نُشر في 2017/11/27، العدد: 10825، ص(16)]علاقات متشابكة من منطلق ثيمة ما بعد الانهيار العظيم الذي حفلت به أفلام الخيال العلمي منذ سنوات، صار المشاهد يتنقل بين أنواع متعددة من الاختيارات للأجواء والشخصيات والأزمنة وأماكن الأحداث في متعة فريدة تتعلق غالبا بالناجين ومن تبقى على سطح الكوكب من بشر، وكيف ينظّمون أمور حياتهم وكيف يواجهون أقدارهم. وتورد العديد من المواقع السينمائية والمجلات المتخصصة قوائم تتضمن العشرات من أفلام الخيال العلمي المرتبطة بثيمة الانهيار العظيم وما بعده، ونتذكر هنا أفلاما مثل “رجل الأوميغا” (إنتاج 1971) و”الهرب من نيويورك” (1981) و”اثنا عشر قردا” (1995) و”باناديميك” (1996) و”يوم الاستقلال” (1996) و”ضوء النهار” (1996) و”أرماغادون” (1998) و”حروب العالم” (2005) و”منطقة الحرب زد” و”سلسلة ماد ماكس” و”الطوفان” (2007) و”الطريق” (2009) و”الموجة الخامسة” (2016) و”التطهير” (2017) وغيرها. وفي الفيلم الجديد “مكتب البشرية” من إخراج روب كينغ، هنالك معالجة تسير بنفس ذلك المسار مع اقتصار الانهيار العظيم على الولايات المتحدة، حيث يكون العالم قد أبيد بحروب ذرية ومشكلات التغيّرات المناخية ولم يبق في تلك البلاد سوى الناس المنتجين الذين تدير شؤونهم وشؤون باقي الناجين من الهلاك حكومة تعرف باسم “مكتب البشرية”. ومن بين من يخدمون في هذه الحكومة وكيل مختص هو نوح كروس (الممثل نيكولاس كيج) مهمته تقييم الباقين من البشر من الذين لا جدوى من بقائهم ويعدون غير منتجين، وهؤلاء يقوم الوكيل نوح بزيارتهم والاطلاع على موارد عيشهم ومصروفاتهم وما إلى ذلك، ثم يقرّر إرسال من يشاء إلى ما يعرف بـ”عدن الجديدة”، وهو إيحاء بإبادة أولئك المتبقّين. يقوم نوح بالتخلص من محافظ سابق لولاية أميركية مباشرة، ثم ينتقل بعدها لتقييم وضع عائلة مكونة من الأم الشابة راشيل (الممثلة سارا ليند) وابنها، ليقع تحوّل جذري في قرار نوح باستثناء هذه العائلة الصغيرة من الترحيل إلى جحيم عدن. ويقع صراع ما بين نوح ورؤسائه في “مكتب البشرية”، وذلك من خلال آدم وستنغهاوس (الممثل هوغ ديلون) الذي ينوي الاقتصاص من نوح الذي يأخذ العائلة لتهريبها عبر الحدود الكندية.الفيلم غلب عليه التصوير في أماكن طبيعية خارجية شهدت فصول الصراع الدامي ومقتل البطل دون مبرر منطقي ولا شك أن هذا التحوّل الجزئي في الدراما المتعلق بنوح ووفائه لهذه الأسرة، هو الذي أخرجنا من جو الرتابة والمعالجة المترهلة للقصة، حيث لم نشاهد قبل هذا التحوّل شيئا ولم نعلم شيئا عمّا أصاب البشرية. وما يعمق ذلك هو التصوير في أماكن جرداء مقفرة ومن ثم الانتقال إلى أماكن متجمدة، وخلال ذلك لا يقع أي تطور بين الشخصيتين الرئيسيتين نوح وراشيل سوى بث حبكة ثانوية تمثلت في اكتشاف نوح أن الطفل الذي هو في حضانة راشيل، ليس إلاّ طفله هو وأن أمه قد ماتت. ومع ذلك، لم تغير هذه الحقيقة شيئا من مسار الدراما، فنوح ملاحق من قبل رؤسائه الذين يرصدونه تارة عبر الأقمار الاصطناعية وتارة عبر الطائرات المسيّرة، وتقع صراعات عنيفة بينهم، لكن في كل مرة ينجو نوح والأسرة التي معه حتى المشهد الأخير، حيث يقتل نوح وراشيل وينجو الطفل. غلب على الفيلم التصوير في أماكن طبيعية خارجية ما بين أماكن مقفرة ومرتفعات شهدت فصول الصراع الدامي لينتهي بمقتل (البطل)، أو الشخصية الرئيسية من دون مبرر منطقي، لكن التحوّل الجذري في مسار الدراما وغير المتوقع أن يحتفظ نوح بأدلة تثبت جرائم إبادة جماعية بحق الفقراء بدعوى إرسالهم إلى جنة عدن، ممّا يتسبّب في اندلاع مظاهرات تطالب بإسقاط “مكتب البشرية”، تلك هي الفضيلة والخدمة التي قدّمها الرجل الطيّب والمغامر نوح. ولعل ما يمكننا التوقف عنده، هو هذا النوع من الدراما العاطفية الإنسانية المبنية على خلفية الانهيار العظيم، فهذا الفيلم ذو التكلفة المحدودة، كما هو واضح، زجّ بممثل كبير،هو نيكولاس كيج، لكن في مقابله لم يكن لسارا ليند موقع الندية والأداء الموازي المقنع. وبموازاة ذلك كان تفجّر الصراع ما بين نوح وخصمه اللدود وستنغهاوس، هو أهم المسارات السردية والدرامية التي رفعت من مستوى الإيقاع الفيلمي وحققت شيئا من الجاذبية والتميز في بناء الأحداث، لكنه نوع من الصراع الذي يكتسب شكلا مكرّرا من المطاردات واستخدام الحرّاس المسلحين بالمدافع الرشاشة، لكنهم لا يطالون نوح في جميع المواجهات. ختاما يمكن عدّ المشاهد الختامية على فرض أنها على الحدود الأميركية الكندية من المشاهد المهمة والمؤثرة، ولا ندري لم تكون كندا، كما هي، ملاذا للهاربين من الجحيم، حيث تقع هناك المواجهة الحاسمة بين نوح وخصمه، لينتهي دور نوح، لكن موته يشعل شرارة انتفاضة عارمة تعم الولايات المتحدة.