الفنان الألماني وولف غانغ ستيلير عيدان الكبريت الخشبية والمتحوّلة رؤوسها المتفحّمة إلى رؤوس بشرية منحوتة بدقة وحساسية عالية، فقد قدم الفنان هذه الأعمال قبل عرضها في صالة “مارك هاشم” بالعاصمة اللبنانية بيروت، في أكثر من دولة ومن بينها ألمانيا والصين.العرب ميموزا العراوي [نُشر في 2017/12/01، العدد: 10829، ص(17)]عبودية معاصرة بيروت – للوهلة الأولى لا تثير الرؤوس البشرية المُتفحّمة التي تتوّج عيدان الكبريت العملاقة القلق أو الخوف في نفس المشاهد اللبناني، إذ تأخذه هذه الأعمال سريعا وبعيدا إلى تشعّبات معانيها التي تختلف كلما تم عرضها في بلد جديد، أي كلما أغدق عليها السكان المحليون بمعان إضافية تظل مهما اختلفت تنتمي إلى نفس دائرة الإحالات، هو ذاك إحساس المتابع للآثار الفنية المعنونة بمجموعة “رجال عيدان الكبريت” للتشكيلي الألماني وولف غانغ ستيلير، التي تعرض حاليا في صالة “مارك هاشم” البيروتية. حول أعماله تلك قال وولف غانغ ستيلير في أكثر من مناسبة، إنه لا يريد أن يعطي معنى واحدا للأعمال، بل يريد أن يترك لهذه الأعمال فرصة التحوّل واكتساب معاني مختلفة في ذهن الآخرين، تماما كما حدث معه وهو يقوم بتحقيقها في فضاء مشغله. ويضيف قائلا “للبعض، قد تبدو الأعمال في الصالة وكأنها تجسيد لمجموعة من البشر في ساحة حرب بعد انتهاء المعركة، ولكنها للبعض الآخر ستبدو وكأنها ألعاب ملّ منها اللاعبون فتركوها ورحلوا”. ومهما اختلفت رؤية هذه الأعمال الفنية يبقى أنها تجسّد بشكل واضح عيدانا خشبية هي بطول إنسان متوسط القامة، وقد تفحّم رأسها على شكل رؤوس بشرية ذات وجوه مؤثرة جدا، تغري تلك الوجوه لحرفيتها ولدقة تعابيرها زائر المعرض لكي يلمسها، فإذا بلمسها يشبه كثيرا قطع الفحم وبقايا الكبريت المنطفئ بعد أن انتهى اشتعاله، لذلك ربما، سيجد الزائر نفسه يقترب من الرأس كي يشتم رائحة حريق لم يحصل فعلا، لأن الفنان قام بمحاكاته بالشكل والملمس واللون دون استخدام النار.تجسيد لمجموعة من البشر في ساحة حرب ويقول الفنان إنه بدأ بهذا المشروع عن طريق الصدفة، وذلك عندما كان في مشغله بالصين، ويسرد أنه كان يتأمل في كيفية استخدام بقايا عيدان البامبو والخشب عندما وقع نظره على بعض القوالب التي استخدمها في نحت وجوه بعض الأشخاص الصينيين، فإذا بمجموعة “رجال عيدان الكبريت” بدأت تتشكّل في خياله. ومنذ ذلك الوقت والفنان يثابر على دفع وتوسيع حدود مشروعه الفني هذا، وابتكار وتصميم أشخاصه ليضعها غير متشابهة تماما وفي مواقف مختلفة، بحيث يعيد تجميعها وتطعيمها بأعمال جديدة ليضعها ضمن معارض في بلدان مختلفة تحت عناوين فرعية تأتي تحت العنوان الكبير الذي هو “رجال عيدان الكبريت”، ويؤكد ستيلير حتى اليوم على أنه يودّ الاستمرار في ذلك طالما لم تنته الأفكار التي يمكن أن يعبّر عنها من خلالها. يطلق وولف غانغ ستيلير على معرضه البيروتي الأخير “لا ثبات”، وللوهلة الأولى يمكن فهم خلفية هذه التسمية، لأن فعل الاحتراق يرتبط مباشرة بفكرة التحوّل من حال إلى حال ممّا يدخل بدوره عامل الزمن في المعادلة الفكرية المؤسسة للعمل، ولكن لن يطول الأمر قبل أن يكتشف زائر معرضه أن قوة المعرض تكمن تماما في حالة “الثبات” النافية لمنطق النار والزمن. ثبات في فعل احتراق جماعي يكاد يكون عادة اجتماعية باتت شبه عادية، ويمكن أن تمثل هذه الشخوص الخشبية المتفحّمة رؤوسها أفكارا تترجم أفعالا عديدة نذكر منها الاحتراق من طول الركود أو نقيضه، أي العبودية المعاصرة المُتمظهرة في العمل الشاق والقليل المردود، ويمكن أن تمثل أيضا فعل إحراق الذات لأجل الاعتراض على غياب العدالة الاجتماعية، كما يمكنها أن ترمز بهيئاتها إلى العزلة ضمن مجموعة تحترق بصمت في وحدتها دون أن تتفتت أو تتهاوى كالرماد. وربما بسبب ذلك الاتزان والهدوء المتنامي من حالة احتراق لا لبس فيه، هو ما جعل أعمال الفنان مُتسمة بالطرافة والحساسية، مع أنها أعمال ينبغي أن تولد الشعور بالنفور أو الغضب. واختبار مشاعر مختلفة تماما عن الغضب تجاه أعمال تجسد ما يشبه محارق معاصرة لبشر الأرض، ربما مصدره ليس فقط غرائبية الأعمال، ولكن لأن وجوه عيدان الكبريت، إذا صحّ التعبير، لا يبدو عليها الألم الجسدي ولا الألم النفسي المترتّب عن أي فعل احتراق كان، كما أن لا دخان مُجسد بصريا، ليؤكد عملية الاحتراق على النحو الذي نفهمه تقليديا، وذلك بالرغم من أن الأعمال تشير إلى أن فعل الاحتراق، هو مُستمر ولم ينته بعد. والتجهيز الفني الذي قدمه الفنان غني جدا، رغم أن عناصره المؤسسة غير كثيرة: عيدان الكبريت تقف متجمّعة حينا ومتفرقة حينا آخر، فبعض الشخوص تفترش الأرض أو يبدو عليها أنها هوت دون أن تتكسر أو يؤدي سقوطها إلى تبدل في تعابير وجوهها المُسالمة الغارقة في تأمل ذاتي يمنعها من الشعور بالألم، وبعض شخوص الفنان ترقد في سباتها الأخير في علب مفتوحة وهي لا تختلف كثيرا عن الحيّة التي لم “تمت” بعد.حالة "ثبات" نافية لمنطق النار والزمن وفي المعرض أيضا رؤوس متفحّمة قدمها الفنان مقصوفة عن أجسادها ومتصلة بقطع خشبية مستطيلة علّقها على جدران الصالة، وأعطاها عناوين فرعية متعلقة بالذاكرة المشحونة بذكريات مؤلمة، والمفارقة تكمن في هذه الأعمال فقط، حيث توقفت عملية الاحتراق ولم يعد إلاّ كناية عن ذكريات، طاف الألم الجسدي والنفسي وفاض في كل تعابير الوجوه، بينما كان مكتوما في الأعمال الأخرى حين كان فعل الاحتراق في أوجه، تفتح هذه المفارقة أبواب التأويل واسعا أمام أفكار فلسفية معاصرة كثيرة. أما “أطفال عيدان الكبريت” الذين يستحيل ألا نذكرهم، وهم في المعرض الأقدر على التعبير عن أهم ما يهجس فيه المعرض وهو فعل “تشييء” الإنسان ببساطة مرعبة، عبر جعله مجرد مادة تُستخدم في تغذية وخدمة المُثل العليا المعاصرة التي لسنا بصدد الكلام عنها هنا، فقد نحت وولف غانغ ستيلير رؤوسهم بنفس أسلوب رؤوس الرجال وقدم بعضها مُفحّمة في جرن فيه مدقّة، ربما استعدادا لتحويلها إلى “كحل” لتجميل وتقوية عيون أسياد هذا العالم.
مشاركة :