الفنان التشكيلي السوري غيلان الصفدي الحاصل على شهادة البكالوريوس في الفنون الجميلة من مدينة دمشق، مجموعة من الأعمال الفنية المشغولة بالأكريليك والحبر الأسود على القماش، أعمال وضعها في صالة “آرت لاب” بالعاصمة اللبنانية بيروت بأحجام مختلفة تحت عنوان “على العرض أن يستمر”.العرب ميموزا العراوي [نُشر في 2017/08/04، العدد: 10712، ص(17)]أجساد تختنق بالرمادي بيروت – للمرة الثانية يعرض التشكيلي السوري غيلان الصفدي المولود سنة 1977 في مدينة سويداء، بصالة “آرت لاب” البيروتية آثاره الفنية الجديدة تحت عنوان “على العرض أن يستمر”، معبرا فيها بطريقته الخاصة عن أن الفن وسيلة فتاكة للتعبير، مهما كان هذا التعبير قاسيا، أو لا يلاقي استحسان البعض من الجمهور، أو لا ينسجم مع رغبتهم في رؤية نص فني مزركش بالورود ومُحصن بالنوايا الطيبة/الزائفة. لن يكون من المبالغة البتّة العثور على مقاربة هائلة ما بين ما قدم الفنان السوري الموهوب غيلان الصفدي من أعمال فنية تحت العنوان الذي اختاره لمعرضه الجديد، وعنوان وكلمات وأجواء الأغنية الكلاسيكية في آخر ألبوم لفرقة “كوين” الإنكليزية الشهيرة، “على العرض أن يستمر”. وعلى الرغم من اختلاف مناسبة النصين الفنيين، كلاهما يتكلمان عن الألم والإحساس بطيف الموت المُخيم بثقله على كافة مرافق الوجود مع حضور شرس للرغبة في الحياة. ولئن كانت أغنية “الكوينز” مستوحاة من المرض القاتل الذي كان يفتك بجسد المغني الأساسي في الفرقة فريد مركوري، الذي استطاع أن يؤدي الأغنية حتى وهو على شفير الموت، فإن الفنان التشكيلي السوري استقى معالم ومفردات جميع أعماله المعروضة من الألم البشري، وبالأخص الحرب على سوريا، ومن حتمية “الأسود” وسلطته على جميع مرافق الحياة، حتى تلك المضيئة منها. وفي حين تتكلم الأغنية عن الأقنعة المُجملة، وبراعة التمثيل الإيمائي، وما يجري أمام ومن وراء ستارة المسرح الوجودي، يقدم غيلان الصفدي أعمالا تنضح بالمهزلة الوجودية، لا سيما تلك التي أنتجتها الحرب من أحوال نفسية واجتماعية، وذلك من خلال شخوص رصّهم الفنان مع بعضهم البعض في رسومات واضحة الخطوط وغامضة الخفايا، وهم في أوج غربتهم عن بعضهم البعض.غيلان الصفدي يقدم أعمالا تنضح بالمهزلة الوجودية، لا سيما تلك التي أنتجتها الحرب السورية من أحوال نفسية واجتماعية ويقدم الفنان مشاهد العزلة والبرودة الشبحية في لوحات وكأنها مقتطعات من شريط مصوّر مأخوذ بالسرد أولا، ولا يجيء الجانب الفني والجمالي من الأعمال إلاّ لخدمة الأفكار المطروحة عبر شخصيات تمثل كل واحدة منها حالة مصدعة ما أو لها وجه شبيه بوجه الفنان، كما تحضر في اللوحات صور لشخصيات معروفة كشخصية “دون كيشوت”. وتبرز في المعرض لوحة أراد فيها الفنان مقاربة لوحة شهيرة للفنان الروسي شاغال، ولكن من خلال منطق آخر تحول فيه الحلم في لوحة شاغال الأصلية إلى كابوس “أصيل” في لوحته، كما يعم تأثر الفنان بالنزعة الفنية التعبيرية السوداوية للفنان الألماني أوتو ديكس، ولكن بأسلوبه الخاص ومفرداته المستقاة من محيطه العربي والسوري بشكل خاص. يقدم غيلان الصفدي معرضه هذا بكلمات تبعد أي التباس عن المغزى الذي أراد إيصاله للناظر إلى أعماله، يقول “في هذا الزمن الذي نعيش فيه، حيث تسيطر الحروب والعنصرية والدمار، وبالرغم من جوّ العزلة والوحدة التي نغرق فيها أكثر فأكثر، فنحن أبطال وسنظل كذلك على خشبة المسرح لتقديم مسرحية اسمها الحياة.. الممثلون الذين يتزاحمون في لوحاتي هم قادمون من ماض يخصني ومن مستقبل يعنيني، شخصيات قد أكون تعرفت عليها من خلف الستارة أو تحت أضواء العرض.. أحلامهم وكوابيسهم تدفقت في اللوحات لتمثلهم في المسرحة الكرنفالية القاتمة، أنتم (المشاهدون) فيها أيضا، في النهاية مهما كانت فداحة الأمر.. على العرض أن يستمر”. وما يميز أعمال الفنان السوري هو أنها خلافا للعديد من الأعمال لفنانين آخرين لا تأخذ على عاتقها “فضح” حالات التردي خلال وبعد اندلاع الحرب السورية، وهي أيضا ليست بصدد الإشارة إلى اهتراء القيم بشكل عام وعلى مستوى الإنسانية جمعاء. ويبدو أن ما أراد إظهاره هو إعادة عرض ما يُعرض أصلا على ساحة الوجود على أنه معلوم لدى الكل وليس بحاجة إلى من يلفت النظر إليه، وربما هنا يكمن صلب المأساة، وقد برع الفنان في التعبير عن ذلك عبر تقشف لوني مقتصر على الأسود والأبيض والرمادي. والصفدي باستخدامه لتلك الألوان، إن جاز اعتبارها ألوانا، أخرج هول المأساة من محدودية الزمن والجغرافيا، إنها صور لكل مكان وكل زمان، وهي تذكرنا كثيرا بالصور الفوتوغرافية بالأسود والأبيض التي التقطها صحافيون سابقون كثر عن الحروب وآثارها، فكيفما نظرت إليها “الآن”، تجدها خارجة عن سلطة الزمن، تقف شاخصة بعين المُشاهد متحدية القابلية للذوبان في خرافة ارتأت تقسيم الوجود إلى ثلاثة أقسام متتالية: الماضي والحاضر والمستقبل. وليس هذا فحسب، يكمن تميّز آخر في أعمال الصفدي، فمعارضه السابقة التي اعتمد فيها على استخدام كل الألوان لا سيما الألوان الحارة، لم تكن خارج الجوّ الإنساني المأزوم بالرغم من أنها أعمال أنتجت قبل الحرب السورية، ويكفي تذكر تلك النظرات الجاحظة في عدم “طفولي”، وتحملها أجسادا تختنق بألوانها، أما في هذا المعرض، حيث انكفأت الألوان بعيدا جدا بدت أعمال الفنان أكثر هدوءا وقبولا للجرح الذي يبدو أن نزيفه تأجل حتى جاءت الحرب السورية لتشرعنه وتضيف إليه أبعادا جارحة أخرى. هكذا هو الوجود الآن في زمن انعدمت فيه أصول الرحمة، وبات من الضروري التكيف مع “انعدامها” كي تستمر الحياة بأي شكل من الأشكال، لعلها تعود بهيئات مختلفة، بلون أو من دون لون شريطة أن تعشعش فيها عصافير تُدمع من شدة الضحك.
مشاركة :