لا يتمنى المرء أن يرى شعبا تخترقه سهام الفساد لتهشم جوهره مثلما حدث للشعب العراقي الذي صار يرى في استسلامه لأتباع إيران الذين يحكمون الطوق عليه نوعا من القدر الذي لا خلاص منه.العرب فاروق يوسف [نُشر في 2017/12/06، العدد: 10834، ص(9)] يُقال بطريقة تمزج بين الألم والغضب إن الولايات المتحدة سلمت العراق إلى إيران. ولكن هل كانت القوة الكبرى مضطرة للقيام بذلك؟ في حفلتها العراقية كانت القوات الأميركية تقاتل أشباحا. كانت المقاومة العراقية تقاتل بطريقة بدائية إلى أن انفتح الخيال الشرير على “القاعدة” وظهر أبومصعب الزرقاوي، وكان ما كان من حرب أهلية، كان الغرض منها طيّ صفحة المقاومة التي تم إلحاقها بملف الفتنة الطائفية. لقد صار العراقيون يقتلون بعضهم بعضا برعاية أميركية. يومها لم يُسمح لإيران بالتدخل المباشر. لا لشيء إلا لأن الولايات المتحدة لم ترغب في أن يحسم النزاع قبل أن تطمئن إلى سلامة وأمن مصالحها في العراق. على سبيل المثال لم يظهر يومها قاسم سليماني أو أيّ جنرال إيراني في الصورة مثلما ظهروا في أوقات لاحقة. كان العراقيون يُقتلون في الشوارع، فيما كانت الولايات المتحدة ترتب أوراقها في بلد ستتركه في وقت قريب فارغا من أيّ سلطة حقيقية. لم يكن نوري المالكي، وقد كان رئيس وزراء إبان الحرب الأهلية، يحلم في أن يبقى في السلطة لدورة ثانية لولا أن الولايات المتحدة قد قررت أن تهب إيران فرصة للتنفيس عن أزمتها الداخلية التي فاقمها الحصار الدولي. بهذا المعنى كان المالكي نفسه هبة أميركية إلى إيران. ولقد فعل الرجل ما أريد منه على مستوى إعانة إيران في الخروج النسبي من مأزقها. تحت الطاولة كان هناك حوار أميركي-إيراني، فيما كانت الأحزاب الشيعية العراقية الموالية لإيران، وفي مقدمتها حزب الدعوة الحاكم، تخطط لمرحلة تتخذ فيها الحرب الطائفية صيغة جديدة، منسجمة مع الدعوة العالمية للحرب على الإرهاب. لقد أعادت تلك الأحزاب إنتاج صورة العدوّ بما يرضي الطرفين المتحاورين، فكان تنظيم داعش هو النموذج المثالي الذي يمكن من خلاله التغطية على جريمة إبادة طائفية لن تفارق كوابيسها مستقبل العراق لعقود قادمة. كان حضور إيران في تلك الجريمة واضحا وعلنا للعالم. وكما يبدو فإن حضورها في العراق لا يشكل حدثا يدعو الولايات المتحدة إلى الاعتراض أو الاستياء، وهو ما يؤكد أن التنسيق لا يزال مستمرا، على الأقل، على مستوى شؤون صغيرة كالمسألة العراقية. الولايات المتحدة لم تعد تولي العراق اهتمامها منذ أن تأكدت من أن الدولة الوطنية التي تم تحطيمها عام 2003 لم تعد قادرة على الانبعاث، وأن دولة الطوائف التي حلّت محلها قابلة للحياة لزمن غير منظور، وإن تطلب الأمر السماح لإيران بأن تكون ضابط إيقاعها. لقد سُمح لإيران بأن تقوم بتلك المهمة المعقدة التي لا تملك الدولة العظمى الوقت أو المزاج أو المصلحة للقيام بها. كانت الولايات المتحدة تدرك أن إيران راغبة في القيام بتلك المهمة التي تنسجم مع رغبتها في أن يكون لها دور في إدارة شؤون المنطقة، لذلك سلّمتها بلدا مهشما لا أمل له في استعادة عافيته بعد أن كشف شعبه عن هشاشة غير متوقعة. وهو ما فاجأ أفراد ذلك الشعب قبل أن يفاجئ الآخرين. ما لم يكن متوقعا من العراقيين، الذين عُرفوا بوطنيتهم، أن يصدّقوا كل الأكاذيب التي صنعت أنهارا من الدماء صاغرين وهم ينصتون ببلاهة لما يقوله رجال عصابات وقطّاع طرق ووصوليون وانتهازيون لصوص وجدوا الطريق أمامهم إلى السلطة سالكة عن تاريخهم الاجتماعي والثقافي الذي تعرض لأكبر عملية تزوير تشهدها البشرية. لا يتمنى المرء أن يرى شعبا تخترقه سهام الفساد لتهشم جوهره مثلما حدث للشعب العراقي الذي صار يرى في استسلامه لأتباع إيران الذين يحكمون الطوق عليه من كل جانب نوعا من القدر الذي لا خلاص منه. فإذا كنّا نوافق على أن الولايات المتحدة قد سلمت العراق لإيران، فإن العراقيين فعلوا الأسوأ. كاتب عراقيفاروق يوسف
مشاركة :