القاص السعودي طلق المرزوقي في قصصه على اشتغالات الموروث باعتباره هوية، لا قطيعة بينه وبين التاريخ. مؤكداً من خلال ذلك على قدرة الموروث الحقيقي أو المتخيّل في تشكيل ثورة حداثية قادرة على رفع النص عاليا. لهذا فهو من الأصوات القليلة التي نحتت من البيئة المحلية عوالم جديدة لم يجربها أحد قبله، منطلقا من قناعته الأصيلة بأن التراث حالة من حالات الأنسنة الكونية التي يجب ألا تقف على جغرافيا بعينها. “العرب” توقفت معه في هذا الحوار حول عوالمه القصصية وقضايا ثقافية أخرى.العرب زكي الصدير [نُشر في 2017/12/07، العدد: 10835، ص(15)]نحن أصحاب حداثة منقوصة عام 2004، صدرت للقاص السعودي طلق المرزوقي مجموعة قصصية وحيدة حملت عنوان “دماء الفيروز”. وقريبا سترى النور مجموعة جديدة بعنوان “مسارب الرمل”. ورغم قلة إصداراته، وعلو قلقه حيال كل ما يكتب إلا أن المرزوقي ينطلق من حصيلة خبرات متراكمة أهلته لفهم طبيعة المشهد القصصي السعودي على مستوى النشأة والحضور، فهو عضو سابق في نادي القصة بجمعية الثقافة والفنون بالرياض، وعضو مؤسس بجماعة السرد في نادي الرياض الأدبي، وعضو مؤسس لجماعة أصدقاء الكتاب بالطائف، بالإضافة إلى رئاسته لجماعة إبداع في جمعية الثقافة والفنون، وجماعة إبداع بنادي الطائف الأدبي. الخصوصية المحلية يرى المرزوقي أن المشهد الثقافي السعودي يحتاج إلى تدخل من هيئة الثقافة المشكّلة مؤخراً لتعيده إلى سويته المفقودة، خاصة بعد أن دلف إليه الدخلاء الذين لا علاقة لهم بالأدب والثقافة، أما بخصوص المشهد السردي فيظن بأن الكتّاب في السعودية استطاعوا الوصول للمتلقي العربي وراكموا أعمالاً تستحق الاحتفاء والمتابعة. يتكئ المرزوقي في قصصه على اشتغالات الموروث باعتباره هوية، لا قطيعة بينه وبين التاريخ. مؤكداً من خلال ذلك على قدرة الموروث الحقيقي أو المتخيّل في تشكيل ثورة حداثية قادرة على رفع النص عالياً. يقول متحدثاً لـ”العرب”، “كنت أحاول من خلال الكتابة أن أُعيد تخليق حكايا الصحراء بكل متخيلها السردي، ولا أعرف إن كنت نجحت أو أخفقت، فالحكم للمتلقي. لقد فُتنت بالصحراء وحكاياها بحكم النشأة. وكان أكثر ما يشدني في طقوس أهل الصحراء، وحاولت أن أكتبه، هو هذا الترحال الدائم والسرمدي، والذي يعزوه البعض إلى الرغبة في البحث عن مصادر المياه، حيث الحياة”. ويضيف “أنا أنظرُ إلى الترحال من زاوية أخرى، فكل الأساطير التي تشكّلت حول الرحيل الذي يمارسه البدو في صحرائنا العربية ماهي إلا محاولة جادة للبحث عن الكينونة المنسية، إنه توق للوصول إلى نقطة البدء التي تجلّى فيها الإنسان الأول، أو لنقل الإنسان الكامل على بقعة ما على هذه الأرض إنه البحث عن بقعة الخلاص البشري أو الفردوس المفقود. ولو بشكل غير واع، أقصد على المستوى الرمزي الكامن في وعي إنسان الصحراء، وقد كتبت شيئا من هذا في أكثر من نص وخاصة نص ‘الطريق إلى رمدان’. كنتُ أحاول في هذا النص أن أتماهى مع فكرة الترحال عند البدو التي هي ثابت وجودي في وجدان ابن صحراء الجزيرة العربية، وكلنا يعرف حجم ما أنتج من متخيل سردي حول هذا الترحال الذي يكشف عمق وتنوع هذا المتخيّل”.العمل الثقافي العميق والمؤثر لا تنتجه المؤسسات الرسمية، وإنما ينتجه أفراد مثابرون كما في كل ثقافات العالم لا يرى المرزوقي في علاقة الحداثة بالموروث ضرورةً لتبنّي فكرة القطيعة مع القديم خاصة في جانبها السردي لأن تراثنا السردي غني بتنوعه، بالإضافة إلى عمقه الذي ساهم في تشكيل الهوية، هذه الهوية الناجزة-حسب تعبيره- هي نتيجة لزخم تقاليد الحكي التي تنطوي على مخزون تقافي ثري، يحوي معينا لا ينضب من الأساطير والأشعار والحكايا والفنون والطقوس. يؤكد المرزوقي بأن كل قاص جيّد قادر على التحوّل إلى روائي وقد فكّر في خوض عالم الرواية ولكنه يتريّث كثيراً بسبب قلّة الكتابة، بالإضافة إلى أن الرواية-حسب تعبيره- تحوّلت إلى هوس جماعي. يقول “انخرط في هوس كتابة الرواية كثير من الكتّاب حتى أصبح عندنا زخم روائي فائض عن الحاجة. ومع الإقرار بأن هذا الزخم ينطوي على نصوص قوية لكتّاب محترمين، إلا إنّ أكثره يميل إلى الهشاشة التي لا تضيف للمشهد الثقافي شيئًا”. وفي هذا الصدد يرى ضيفنا بأن البيئة المحلية تحمل في داخلها كثيراً من التنوع الذي يمكن أن يوظفه الكاتب الجيد، فكلنا يعرف أن الكتّاب الكبار وصلوا للعالمية من خلال النهل من بيئاتهم المحلية كماركيز وإمبرتو إيكو ونجيب محفوظ وغيرهم كثير”. حداثة منقوصة في حديث عن هامش مؤتمرات المثقفين السعوديين، التي اتفق فيها جميعهم على ضرورة وجود مظلة تلملمهم وتحميهم، وذلك عبر تأسيس اتحاد أو رابطة للكتّاب السعوديين. يؤكد قاصنا المرزوقي بأنه كان واحدا من عشرة أسماء وقّعت على طلب إنشاء رابطة للأدباء السعوديين قبل سنوات لا يحصيها عدداً. يقول “تحديدا في زمن الوزير إياد مدني، وقّعت على طلب إنشاء رابطة للأدباء السعوديين، وقد تابعناها حتى وصلت لمجلس الشورى، ثم أحيلت إلى هيئة الخبراء في المجلس لتمارس غيابها الطويل في ردهات البيروقراطية. وبقدر ما تحمّست لتلك الرابطة في حينها إلا أني لاحقاً وصلت إلى نتيجة مفادها أن العمل الثقافي العميق لا تنتجه المؤسسات، وإنما ينتجه أفراد مثابرون. كما في كل ثقافات العالم”.محاولة جادة للبحث عن الكينونة المنسية وفي سؤال عن ارتدادات حركة الصحوة الإسلامية على الحداثة في السعودية على مستوى الفنون والمرأة والفلسفة، حيث حوربت بواكيرها من خلال منابر دينية واجتماعية. وكيف صمد الكتاب والمبدعون أيامها في وجه هذا الانحدار للمكتسبات الثقافية. يجيب المرزوقي “لا شك أن الصحوة مثلت حالة من الإرباك في مسار المجتمع بسبب تركيزها على لون واحد من الفهم، خاصة في خطاب الدين، ولعل خطاب ولي العهد الأخير دليل على أن ثمة قرارا يمكن أن يساعد المجتمع والدولة في تجاوز تلك اللحظة التي عصفت بالمجتمع. من جانب أخر بخصوص مقولة ‘صراع الصحوة والحداثة’-والتي كثير ما يرددها المثقفون عندنا- وهي أن الحداثة تراجعت بسبب الصحوة. في رأيي إن هذه المقولة تحتاج إلى إعادة فحص نقدي لأن الحداثة بوصفها زمنا يعي ذاته كما يقال لم تصل للعالم العربي عامة والسعودية خاصة، إذ أن ما يُسمّى حداثة في السعودية لا يعدو كونه حداثة نصية، أي على مستوى إنتاج النصوص فقط، بينما الحداثة في الغرب هي حالة من التحوّل الدائم الذي تشكّل عبر سيرورة زمنية طويلة، نتج عنه تحوّل هائل في المفاهيم، بدأً من النص في حدّه الأدنى إلى الموقف من الوجود في حدّه الأعلى. ثم بناء على هذا التحوّل تم تغيير كبير في العلاقة بين الدين والدولة، وفي العلاقة بين السلطة والجمهور، بل إن التغيير طال كل تفصيل الحياة، وهذا غير متوفر في العالم العربي”. ويختم طلق المرزوقي “نحن أصحاب حداثة منقوصة، ولعلّي في هذا السياق أستدعي تعريفا بليغاً لأكتافيو باث يقول فيه ‘إن الحداثة تراث يزيل تراث اللحظة’”.
مشاركة :