"هو" و"هم" غير مرحَّب بهم، أقصد هنا ضيف الجزائر ثقيل الظل الذي حط رحاله عندنا بعد أن كانت له صولات وجولات في القارة السمراء خلال الأيام القليلة الماضية، أما "هم" فأقصد مستقبليه من ممثلي حكومة الانتداب وأذنابهم وبعض المشتاقين إلى تقبيل يد العدو التي أثخنت أجداده جراحاً وأثقلتهم قتلاً وتعذيباً. وهي فرصة لا تُعوض بالنسبة لأولئك "الكيوت" لأخذ صور السيلفي مع حبيب جماهير "الحركى" ونشرها والتباهي بها على مواقع التواصل الاجتماعي لتوثق بذلك لحظات الانبطاح والاستسلام لمن كانت بالأمس معاداته فخراً والجهر بهُجرانه عزة، أما اليوم فقد انقلبت الموازين واستُبدل هجرانه بالهجرة إليه؛ أما الجهر بمعاداته فقد استُبدل هو الآخر بالجهر بمعصية الانبطاح والاستسلام له. لا ينكر أحد أن خيرات الجزائر -وما أكثرها!- هي في الحقيقة مسخّرة لخدمة مصالح العدو الفرنسي تحت الرعاية السامية لوكلائه الذين اصطنعتهم فرنسا على أعينها وأمدّتهم بكل ما من شأنه إبقاؤهم في مراكز صنع القرار؛ حتى يتسنى لهم السهر على مصالح أسيادهم. فوكلاء الإليزيه أقوياء أُمناء، أقوياء بما يكفي لاضطهاد بني جلدتهم وإخضاعهم لإرادة أسيادهم ترغيباً وترهيباً؛ وأُمناء بما يكفي لرعاية مصالح فرنسا خارج أراضيها ولو على حساب شعبهم ومواطنيهم، فالنظام الوظيفي الذي يحكم الجزائر لم يظلم فرنسا يوماً لكنه لشعبه ظالم، يمكّن عدو شعبه التاريخي مما يريد ويعطيه ما يطلب، أعطية من لا يملك لمن لا يستحق. ولو فتحنا كتاب التاريخ وقرأنا في صفحاته السوداء المسكوت عنها، لوجدنا الكثير من الشواهد التي تؤكد زعمنا، ومنها ما تعلق بدفعة "لاكوست" التي استولت على الدولة وسيطرت على مفاصلها بأساليب لم أجد لها أصلاً ولا سنداً إلا فيما ورد في "بروتوكولات حكماء صهيون". أما تعاليم الأمير، فهي الأخرى حاضرة بقوة في ممارساتها التي رفعت شعار "الغاية تبرر الوسيلة"، والغاية هنا تحيل إلى خدمة العدو، وبالنسبة للوسائل فكل شيء مباح؛ والمُباح مبتدؤه انقلاب وخبره عودة الاحتلال. أما إعرابه، فهو فاعل مرفوع على دبابة، وعلامة رفعه توليه الرئاسة، والمقصود انقلاب سنة 1965 أو "التصحيح الثوري" كما يسمى زوراً وبهتاناً والذي قاده هواري بومدين ونُصّب على أثره أول رئيس للجزائر أفرزته قوة السلاح وحملته الدبابات والمدرعات بدل الصناديق. ومن هنا بدأت مسيرة تصفية الثوار والمجاهدين الوطنيين والتمكين الحقيقي لدفعة لاكوست أو ضباط فرنسا الذين كان لهم الدور المحوري في كل الأحداث الدموية والاضطرابات التي شهدتها البلاد لاحقاً، كمؤامرة أكتوبر/تشرين الأول 1988 التي بيّنت مدى تغلغل ونفوذ "هؤلاء" في مؤسسات الدولة، بالإضافة إلى انقلاب 1992 الذي أوقف المسار الانتخابي الديمقراطي الأول الذي شهدته البلاد، لندخل بعدها في دوامة من العنف والعنف المضاد تحت رعاية دفعة لاكوست أيضاً، التي استغلت الظرف أحسن استغلال لتقوية أذرعها الاقتصادية والإعلامية؛ تمهيداً لمرحلة ما بعد المصالحة. والمصالحة وفق مفهوم "هؤلاء"، تعني السكوت عن المظالم والتستر على الجرائم، وقد اختار هؤلاء لمرحلة ما بعد المصالحة أو مرحلة "الحصاد والفساد" رجلاً أطول من أول إمبراطور فرنسي "نابليون بونابرت" بعد الثورة بسنتيمترين ليحكم لعقدين متتاليين قابلين للتمديد إن كان في عمره بقية! وقد أحسن هؤلاء اختيارهم هذه المرة؛ فبالنظر إلى كم المكاسب التي حصلت عليها فرنسا إبان فترة حكم آل بوتفليقة للجزائر، نجد أنها تفوق بكثير ما حصلته من مكاسب خلال الفترة الممتدة من 1830 إلى غاية 1962 وهو تاريخ خروجها عسكرياً من الجزائر. وبهذا وفّرت فرنسا على نفسها مؤونة الاحتلال المباشر وتكلفة المواجهة العسكرية مع المجاهدين، وخاضت أتون حرب ناعمة أدارتها بنجاح، وكسبت الرهان وسيطرت على بلد بحجم الجزائر دون عناء، فالوكلاء وداعموهم الأغبياء يقومون بدورهم على أكمل وجه، والموارد الجزائرية في خدمة الاحتياجات الفرنسية؛ وما هذا بالجديد ولا الغريب، فالأمر معروف واللعب مكشوف. وما يعنينا من هذا السرد التاريخي، هو تبيان أن الوصاية الفرنسية هي أصل البلاء ومكمن الداء، وأن مبتدأ أي تغيير مرجوّ لا بد أن ينطلق من فكرة التخلص النهائي من مظاهر التبعية الثقافية؛ لأنها هي من تضمن استمرار الوصاية الفرنسية على الجزائر. وعوداً على بدء، زيارة ضيف الجزائر ثقيل الظل لن تكون بادرة حسن نية لأجل الوفاء بوعوده الانتخابية التي قطعها حين كان مرشحاً للرئاسة كما يظن البعض؛ إذ وعد بأن يعترف رسمياً بجرائم أجداده وهذا لن يكون، الرجل بكل بساطة جاء ليحصل على مؤونة الشتاء وليحصل أيضاً على حصته من ثروات الجزائر، لكنه لن يختلس ما سيحصل عليه أو يضعه في حسابه الخاص بإحدى مصارف سويسرا؛ بل سيوظفه للوفاء بوعوده الانتخابية التي قطعها على شعبه ولأجل شعبه ومصالح بلده. فقط، قرر القدوم لزيارة الجزائر وليس لسواد عيون "الحركى"، فاعتبِروا يا أولي الألباب، واعلموا أن أحزمتكم إذ تُشد بإجراءات التقشف، فذلك لأجل أن تُرخى أحزمة الفرنسيين، وأن جيوبكم إذ تفرغ بالضرائب فلأجل ملء جيوب الفرنسيين! أعراض مرضنا نعلمها: جهلٌ وفقر، وبطالة، وفساد واستبداد؛ أما سببها فوصاية الأجنبي وعمالة ذوي القربى، وأسباب المرض أولى بالمتابعة والعلاج، أما الأعراض فزوالها تبعاً لزوال مسبباتها حتمية لا مناص منها، هكذا يفكر العقلاء. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :