نون النسوة متصلة بمهنة التعليم في عرف الرجل الشرقي بقلم: شيماء رحومة

  • 12/17/2017
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

نون النسوة متصلة بمهنة التعليم في عرف الرجل الشرقيتوجه المرأة العربية للعمل بسلك التعليم لا يعكس رغبتها وحبها للمهنة بقدر ما يكشف النقاب عن مخطط مجتمعي يربط المستقبل المهني للمرأة بالتدريس صونا لجسدها وحفاظا على كرامة عائلتها وقبرا لعقلها وإمكانياتها الإبداعية في آن واحد. العرب شيماء رحومة [نُشر في 2017/12/17، العدد: 10845، ص(20)]علاقة حميمية بين المدرسة وطلبتها تونس – تقر إحدى المقولات الشائعة بأن “المعلم الناجح هو أهم أعمدة بناء التعليم الناجح”، غير أن أغلب المجتمعات العربية ترى أن أهم أعمدة التعليم أن تكون المربية امرأة، معتبرة أن التدريس أنسب الوظائف لها. وتعتبر العديد من الشرائح الاجتماعية أن مهنة التدريس تكفل للأطفال بالدرجة الأولى توازنا عائليا وتعليميا، بوصفها تتيح للمرأة التواجد أغلب الوقت مع عائلتها، بالإضافة إلى راتبها المحترم ومكانتها الاجتماعية اللائقة في عرف جل المجتمعات العربية. ويرى البعض أن المرأة خلقت لتكون مربية وأن مهنة التدريس مصممة بالأساس على مقاسها حتى قبل دخول الإسلام، ويستدلون على ذلك بالصحابية ليلى بنت عبدالله العدوية القرشية الملقبة بالشفاء، بأنها كانت أول معلمة في الإسلام، فهي كانت من القلائل الذين عرفوا القراءة والكتابة في الجاهلية، وأعطاها النبي محمد دارا بالمدينة المنورة فنزلتها، وأصبحت تلك الدار مركزا علميا للنساء. ولعل ما يدعم هذا الرأي أن المرأة أثبتت بالفعل على مر السنين جدارتها بهذا المنصب وساهمت في تعليم أجيال من طالبي العلم وتهذيب سلوكياتهم وأخلاقهم. مهنة شاقة أكد الدكتور شكري العياري، الخبير التونسي في التنمية الذاتية والإحاطة النفسية واستشاري العلاقات الزوجية، أن “المرأة اضطلعت بدورها التربوي طيلة حياتها وهي تقوم به على أكمل وجه فهي مجبولة أصلا بحكم خلقتها الأولى على التربية، فضلا عن ذكائها العاطفي وقدرتها على مراقبة مشاعرها والتحكم في أحاسيسها، ولذلك أوكل الله لها مهمة الحمل والرضاعة وحماية صغارها مما لا يمكن أن يتعهد به الرجل بحكم تكوينه الذهني والنفسي والفيزيولوجي”. وشدد العياري في حديثه لـ”العرب” على أن “المرأة نجحت أيما نجاح في الاضطلاع بأدوارها في التربية والتعليم باعتبار تفوقها الفطري أيضا في الذكاء اللغوي على الرجل، فالبنت التي يبلغ عمرها 3 سنوات تنطق عددا من الكلمات والألفاظ ضعف ما ينطقه نظيرها الولد ذو العمر نفسه، بالإضافة إلى أن مهنة تدريس اللغات تكاد تكون حكرا على النساء”. وقال إن “تحمس المرأة للاضطلاع بأدوارها التربوية خفت قليلا مقارنة بما كان عليه الحال قبلا، نظرا للعديد من الاعتبارات أهمها الانفلات الاجتماعي الذي تمر به البلاد في هذا المفصل التاريخي وظهور أطراف جديدة في العملية التربوية مع انخرام سلم القيم والتحول إلى الثقافة الاستهلاكية بدلا عن الثقافة القيمية وتراجع المبادئ والقيم فضلا عن تراجع صورة المربي عموما في المخيال الشعبي”.البعض يعتقد أن التدريس من أيسر المهن وأسهلها، لكن من لم يمتهنه لا يدرك كم هو شاق ودروبه مليئة بالصعوبات ويرى العياري أن إقرار الكثير من الرجال بأن مهنة التدريس أنسب إلى المرأة لأنها توفر مساحة أكبر للعناية بأطفالها ولا تتطلب ساعات كثيرة من العمل إلى جانب العطل، وحصولها على إجازات مَرضية بحكم الحمل والإنجاب، فيه إجحاف بحقها. وبين أن “هذه النظرة فيها نزعة براغماتية لشغل المرأة ولا تمثل الواقع كما هو، فالمرأة المربية تشتغل أكثر من غيرها باعتبار أن عملها يتواصل بعد الانتهاء من التدريس، فضلا عن الإرهاق الذي يصاحب مهنة التدريس باعتبارها ثانية المهن الشاقة عالميا بعد مهنة الاشتغال في المناجم، لأنها تستنزف الكثير من طاقة المربي والمربية مما يجعلها أكثر إنهاكا وإرهاقا من غيرها”. وتوافق دليلة حمدي، أستاذة تربية بدنية تونسية، رأي الخبير التربوي، إذ أشارت إلى أن “البعض يعتقد أن التدريس من أيسر المهن وأسهلها، لكن من لم يمتهن التدريس لا يدرك مطلقا كم هو شاق ودروبه مليئة بالصعوبات، ويتطلب الكثير من الجهد البدني والذهني والنفسي، بالإضافة إلى أنه رسالة سامية ومن المفروض أن يمارسه صاحبه بكل حب وإخلاص وصدق حتى يستطيع تعليم الناشئة ويضعهم على الطريق الصحيح”. وقالت حمدي لـ”العرب” “أعتقد أن مهنة التدريس رغم ما تواجهه فيها المرأة من صعوبات فإنها لا يمكن أن تفقد بريقها أبدا في عيون الكثيرات من بنات جنسي، لأن متعة تربية الأجيال وتنشئتهم وتعليمهم لا يمكن أن نشعر بها في أي مهنة أخرى حتى وإن كانت تدر على صاحبها الملايين”. وأضافت أن “المرأة التي تمتهن التدريس رغم كثرة مهامها الأسرية والمهنية، بطبعها صبورة وتبذل أقصى ما عندها من جهد ويكون ذلك أحيانا على حساب صحتها من أجل ألا تقصر في حق تلاميذها، وعندما ترى أن جهودها كللت بنجاحهم فهذا يعد بالنسبة إليها مصدر فخر واعتزاز لا مثيل لهما”. وتابعت “ربما رغبة النساء في امتهان هذا العمل تضاءلت قليلا في العصر الحالي وذلك راجع لعدة أسباب ومنها بالدرجة الأولى صعوبات المهنة، وانحسار فرص العمل والوضعية الحرجة التي وصل إليها التعليم ومن جهة أخرى لهث الكثيرين وراء الكسب المادي الذي قد يجدونه في مهن أخرى أقل مشقة من التدريس، لكنها ستبقى على الدوام المهنة النبيلة التي تستهوي الأغلبية العظمى من النون النسوية”. وأكدت حمدي “اختياري للتدريس لم يكن نزولا عند رغبة عائلتي أو إلزاما منها، إنه اختياري الشخصي. لما كنت تلميذة فُتِنْت بهذه المهنة بسبب الفكرة الجميلة والرائعة التي كنت أنظر بها للمدرسات بشكل عام، كنت أرى المدرسة أنموذجا رائعا لمربية الأجيال صاحبة الشخصية القوية والمثقفة والمبجلة من طرف الجميع وفي أذهان الأغلبية. ومع امتهاني لهذا العمل تيقنت أن التدريس مهنة نبيلة ورسالة سامية في الحياة وليس من السهل أن يكون المرء أستاذا، فالأمر يتطلب الكثير من التضحية والجهد، ولكنه يبقى في نفس الوقت مبعثا للشعور بأروع الأحاسيس، خاصة عندما تزرع في الأطفال بذرة العلم وتحفز فيهم الرغبة في التعلم وتمد لهم يد المساعدة”. آفاق جديدة ورغبة لا تنطفئ رغم أن التدريس لم يعد من أحلام طفولة العديد من النساء وفقدَ البعض منهن الرغبة في مزاولة المهنة لعدة اعتبارات، إلا أن منهن من يتوجهن إليها بسبب بعض الضغوط الأسرية التي تفرض عليهن صورا نمطية تحدد منذ الصغر المجالات التي يجب أن تعمل فيها المرأة. وهذا لم يمنع الكثيرات من تأكيد عشقهن لهذه المهنة وحرية اختيارهن لها بعيدا عن أي ضغوط عائلية، لأن مهنة التدريس وفق البعض رسالة مقدسة لما فيها من أسس تكوين شخصية الفرد التي تنعكس مستقبلا على المجتمع برمته وهي مهمة أنسب للمرأة باعتبار أن العناية بالأطفال من مشمولاتها، حيث برهن تساوي الفرص أمام الإناث والذكور في الالتحاق بمختلف الاختصاصات العلمية، في أغلب البلدان العربية ولا سيما تونس، على أن توجه المرأة للعمل بقطاع التعليم رغم انفتاح آفاق جديدة أمامها يخول لها أن تشغل وظائف أخرى، وهذا دليل على أن تحمس النساء للتدريس لم يخْبُ حيث أكدت عِدّة إحصائيات أن نسب العاملات بقطاع التربية والتعليم في تزايد. ومن بينها إحصائية أردنية أثبتت أن عدد المعلمات أعلى من عدد المعلمين في كافة المراحل التعليمية، ففي عام 2010 وصلت نسبة المعلمات في رياض الأطفال إلى 100 بالمئة وهي النسبة ذاتها منذ عام 2000. كما كشفت آخر الأرقام في الجزائر سيطرة العنصر النسوي على أهم قطاعين في الوظيفة العمومية وهما التربية والصحة، حيث قدر عدد النساء العاملات في قطاع التربية بأكثر من 275 ألف امرأة أغلبهن يشتغلن في التدريس، في حين تنحصر أغلب وظائف الرجال في سلك المقتصدين والمفتشين والمدراء والمراقبين. وسجلت نسبة أعضاء هيئة التدريس في الجامعات السعودية ارتفاعا بلغ 40 بالمئة عام 2014 بينما شكلن 33 بالمئة عام 2005. وقالت سامية ماني العيوني، مدرسة تونسية، إن “مهنة التدريس بالنسبة لي مقدسة، رسخت في ذاكرتي منذ نعومة أظافري لإيماني بأنها في أعلى مراتب التقدير والاحترام”، مستدلة بقول أمير الشعراء أحمد شوقي “قم للمعلم وفه التبجيل كاد المعلم أن يكون رسولا”. وأضافت “أردت أن أكون من بين الأشخاص الذين يتركون بصماتهم في ذاكرة الأطفال كما ترك أساتذتي بصماتهم في حياتي، وعند ممارسة المهنة وجدت أنها لا تخلو من تعب سهر الليالي في تحضير الدروس وإصلاح الفروض، لكن بمجرد حلول العطل يتلاشى كل التعب”. وأردفت العيوني قائلة لـ”العرب” “أصبحت مهنة التدريس في وقتنا الراهن غير محبذة عند المرأة لما تواجهه من صعوبات وعراقيل، كما أن سلوك بعض التلاميذ زاد الطين بلة، حيث أصبحنا لا نتمتع نحن المدرسين بالاحترام من طرفهم”. وأشارت إلى أن “بعض الأساتذة سامحهم الله جعلوا من التدريس تجارة عبر فرضهم لدروس التدارك من خلال التلاعب بأعداد التلميذ”. وختمت بقولها “ورغم كل ما أسلفت ذكره أعتز بمهنتي وحب تلاميذي لي وإحساسي بأني أم لهم لم تلدهم”. كسر الصورة النمطية يؤكد تصريح العيوني -بوصفها أما ومربية- بأن العلاقة التي تنشأ بينها وبين تلاميذها علاقة أسرية أن جانب الأمومة الطاغي على مشاعر المرأة يجعلها في عرف المجتمعات العربية الأجدر بتبوؤ منصب مربية بامتيازات لا يحظى بها الرجل وإن كان هو أيضا قد أثبت كفاءته في العمل التربوي. كما أن الكثير من الطلبة أظهروا من مختلف الأعمار أنهم يفضلون التعامل مع المرأة في التعليم أكثر من التعامل مع الرجل؛ كونها تؤدي في هذا المجال رسالتها على أكمل وجه، وتتفهم كل الشخصيات وطباع الطلبة، وتتعامل معهم بكل حب، وتستنبط كل الطرق لإيصال المعلومة. ومع ذلك أعربت طالبة جامعية، اختصاص تحاليل بيولوجية وتدعى أميمة، عن عدم رغبتها مطلقا في ممارسة مهنة التدريس، قائلة إنها “اضطرت من قبل لإعطاء دروس خصوصية وعلى الرغم من أنها أثبتت نجاعتها وقدرتها على إيصال المعلومة فإنها لا تفكر في امتهان التدريس لأنها تفضل مهنا تدر ربحا أكبر”.التعليم يبقى كما يقول نيلسون مانديلا (السلاح الأقوى الذي يمكن استخدامه لتغيير العالم)، لذلك من الضروري أن تكون ممارسة هذه المهنة اختيارا شخصيا ويرى الطيب الطويلي، عالم اجتماع تونسي، أن تناول علاقة المرأة بمهنة التدريس خاضع لطبيعة المكان الذي تنتمي إليه، قائلا إن “المرأة العربية ليست واحدة، ولا يمكننا أن نتناول بالدرس المرأة العربية ككل باعتبار الاختلافات الجذرية على كل المستويات حسب بلد المرأة والعادات والتقاليد ومختلف المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لمختلف المجتمعات العربية. كما نشير إلى أن وضع المرأة العربية عموما شهد في السنوات الأخيرة تحسنا نوعيا في عدة دول، وهو ما يشير إلى تأثر المجتمعات ومراكز القرار العربية بالعولمة التي ألغت الحدود والفوارق بين مختلف المجتمعات وقدمت نمطا مجتمعيا عالميا يـُتناقل عبر الشبكات الاجتماعية وقنوات الإعلام الجديد”. وأوضح الطويلي “المرأة في شمال أفريقيا أو لبنان لها وضع أكثر تطورا من وضع المرأة العربية عموما، ولكن مع ذلك تبقى مرتهنة بالفكر الشرقي المرتكز أساسا على الهيمنة الذكورية، حيث تكون المرأة معرّضة لشتى مظاهر الميز والاستغلال”. وشدد في حديثه لـ”العرب” على أن “الرجل الشرقي يعتبر أن سلك التعليم هو الخيار الأفضل بالنسبة للمرأة العربية نظرا لرمزيته، فهو يرمز إلى الأخلاق والسلوك الحسن، كما أن المرأة تكون عبر ممارستها للتعليم بصدد القيام بوظيفتها الطبيعية في المخيال العربي والذي يبرز في بيت الشعر القائل ‘الأم مدرسة إذا أعددتها، أعددت شعبا طيب الأعراق’، فهي مهنة نبيلة، تكون فيها المرأة أقل عرضة للإكراهات المهنية والجنسية، وأقدر على الإحاطة التعليمية والتربوية بأبنائها، وتأمين تنشئة اجتماعية سليمة لهم”. وأضاف أن “اختيار مهنة التدريس كمهنة فضلى للمرأة لا يعد في تقديري تعبيرا عن سلطوية الذكر في المجتمعات العربية، بقدر ما هو إيمان بقيمة هذه المهنة وعلويتها، ومحاولة للحفاظ على المرأة من إكراهات المهن الأخرى. كما أن تشغيل المرأة في ميدان التدريس له إيجابياته على الصعيد المهني، باعتبار أن العطل التي تتمتع بها المدرّسة كثيرة وتخول لها الاعتناء بعائلتها، كذلك تكوينها البيداغوجي والعلمي له امتداده على الصعيد الأسري عبر إحاطتها الجيدة بأفراد الأسرة وتدربها على الصبر والتجاوز واكتساب مقدرة أعلى على تعليم الأبناء وتربيتهم”. ويبقى التعليم كما يقول نيلسون مانديلا “السلاح الأقوى الذي يمكن استخدامه لتغيير العالم”، لذلك من الضروري أن تكون ممارسة هذه المهنة اختيارا شخصيا. كاتبة من تونس

مشاركة :