التصنيف الزائد معضلة تحرج النظرية والنقدكثيرا ما نقرأ على الغلاف الأخير للروايات رواية واقعية، رواية فلسفية، رواية مقاومة، رواية رومانسية، وغيرها من التصنيفات المغرية للقارئ الذي يبحث عن لون روائي للقراءة، في الوقت الذي يجمع فيه النقاد على أنه يستحيل تصنيف الأدب في هذا الإطار الضيق. ولكن هل ترتهن الأعمال الروائية لهذه المعايير التي تتجدّد، فمثلا اليوم ظهر علينا مصطلح رواية دينية ورواية أخلاقية وغيرهما، بعيدا عن المعايير الفنية والأدبية التي يمكن من خلالها الحكم على جودة العمل.العرب خلود الفلاح [نُشر في 2017/12/30، العدد: 10856، ص(16)]تصنيف الروايات لا ينفع القارئ والكاتب انتشرت ظاهرة تصنيف الروايات بأشكال غير نقدية، تصنيفات تروم الترويج غالبا، لذا توجهنا بالسؤال إلى عدد من الروائيين العرب، إن كان تصنيف العمل الروائي بين رواية منفى، رواية المقموعين، رواية اجتماعية وغيرها من التسميات، هو ما يمنح الرواية حضورها والاحتفاء بها من حيث الجوائز وعدد الطبعات. وهم وخداع يقول الروائي اليمني وجدي الأهدل إن “الرواية تنقسم إلى أنواع معروفة، كالرواية الواقعية والتاريخية والبوليسية وغيرها. لكن تقسيم الروايات بحسب الموضوعات، ليس سوى تنويعات على النوع نفسه، أي الرواية الواقعية. وﻻ يكفي أن نقول هذه رواية كذا وكذا للزعم بأننا نحقق جديدا، أو نبتكر شكلا روائيا مختلفا. نعم يحتاج الأدب العربي إلى خلق أشكاله الفنية الخاصة، وتوسل تلك التوصيفات ﻻ يُقدم إضافة حقيقية، وربما يُشوّش عمل الروائي، فيظل أسيرا لهذه اللافتات، ويقبع مستكينا بداخلها”. ويؤكد الروائي المغربي محمود عبدالغني أن التصنيف منهج علمي استفاد منه الأدب طوال تاريخه. لكنه يتساءل متى يصبح التصنيف ممكنا؟ وما الذي يجعله ممكنا؟ ويرى عبدالغني أن الروائي الحالي أصبح أكثر تخصيصا في تصنيفه للروايات، وقد انساق الروائي العربي نحو هذا التخصيص، رواية مقاومة، رواية قمع، رواية النضال، رواية المنفى.. مثلما صنّف شعراء لبنان في سبعينات القرن الماضي إلى شعراء جنوب وشعراء شمال. وكما صنّف شعراء تونس، في الجيل نفسه، أنفسهم إلى شعراء القيروان وشعراء تونس العاصمة. وهي تصنيفات لا يمكن أن تثير إلا السخرية. ويقول الروائي “إذا كان التصنيف نافعا في العلوم، فإنه قد يكون عنصرا تجزيئيا في الأدب، خصوصا في نظرية الأجناس. فلاديمير بروب مثلا صنّف الحكايات العجيبة بالاعتماد على المورفولوجية (علم دراسة الشكل) مستفيدا من تصنيفات علم النبات. وفي القرن التاسع عشر سخر غي دي موباسان من تصنيف الروايات الذي ساد عصره، رواية حرب، رواية جنوب، رواية شمال. وهو التصنيف نفسه الذي ساد الرواية الأميركية في نفس القرن. لماذا التصنيف هو منهج القرن التاسع عشر؟ باختصار لأنه قرن التاريخ”. يشير عبدالغني إلى أن حصة الرواية ضخمة دائما من التصنيفات، رواية عائلية، رواية سيكولوجية، رواية تعليمية، رواية فكاهية منثورة، رواية فلسفية.. والتصنيف، بمثل هذه الخانات، هو إخفاق علمي، وانتصار للاسم السحري، رواية. لكن لا يجب أن ننكر، في رأيه، أن هذه التصنيفات هي دليل فني على التطور المذهل للرواية. ويضيف الروائي المغربي “التصنيف لا يقود إلى الوعي بالأعراف، بل إلى شكلانية فقيرة. والروائي المصنِّف هو خادع ذاته، مبخس لمادته (بالمعنى اللغوي والشكلي للفظة). ما يدعنا نبحث بمشقة عن جوهر الرواية الذي ينتفي فيه التعارض بين الخانات التي وضعنا فيها كل صنف من الروايات. لكن بأي معيار قمنا بتصنيفها؟ إنها معضلة حقا تحرج النظرية والنقد. بناء على ذلك تستبدل قضايا الرواية: سيصبح ستاندال ساخرا، وبلزاك رومانسيا، وعبدالرحمن منيف ماركسيا، وغالب هلسا شيوعيا مغرما بالمدن، والطاهر بنجلون تغريبيا، ومحمد برادة شكلانيا باختينيا، ومحمد زفزاف قطعة رائعة من الدار البيضاء، ومحمد شكري شطاريا، وغائب طعمة فرمان نوستالجيا، وخيري الذهبي خرافيا، وهدى بركات متصوفة الحرب اللبنانية، ومدام دي ستاسل متنورة فرنسية معادية لبونابارت، وفرانز كافكا شاعر الموظفين، وبروست روائيا انكماشيا يبحث عن فقاعات الزمن، وغوغول مجرد ساخر مرفّه. في نسيان تام أن الروائي يصنع ثيماته ولغته وشكله وأبطاله وشخصياته ليعيدهم إلى استحقاقهم الفعلي، التاريخ المتدفق الصامت”.إذا سيطرت البراءة على العلم فإننا لن نسمع سوى نواح القارئ حين يلاحظ أنه يقرأ روايات في وضع مرتجف ويؤكد ضيفنا أن حالة البراءة هي ما يخلق تلك التصنيفات، لكن حالات العلم هي المطلوبة بجدّ وجهد. وإذا سيطرت البراءة على العلم، فإننا لن نسمع سوى نواح القارئ حين يلاحظ أنه يقرأ روايات مرتجفة، فيقرر وضع حدّ لهذا التبجّح التصنيفي. في الوقت الذي ينبغي فيه اعتبار الرواية تعبيرا سرديا عن رؤى كونية. إغراء تجاري توضح الروائية الفلسطينية صابرين فرعون أن هناك تأثيرا للاضطهاد السياسي وما تفعله الأمزجة النفسية بالأدباء في المنافي، فنرى معظم الأدباء إما يتخذون من البيئة الجديدة “المنفى” مسرحا للرواية وإما يعتمدون على ذاكرتهم في رسم أوطانهم التي هاجروها أو هُجّروا منها، يتأصل الشعور بالغربة والانسلاخ الثقافي بين لغتين وبيئتين اجتماعيتين مختلفتين تحمل كل منهما خليطا من الثقافات كأمكنة متحركة. وتقول فرعون “إن الأدب في المنفى اقتصر في بداياته على الشعر، فكان سببا في تأسيس الرابطة القلمية من قِبل شعراء المهجر، ثم ظهرت الرواية لتحكي عذابات المقهورين والكادحين ولقمة العيش والبطولات الوطنية، لكنها لا تجسد جنسا أدبيا بحتا، فهي لا تقتصر على المنفى، وإنما يلعب الحنين للبيت الأول دوره في النفس ويبقى الكاتب أسير التعاسة والشوق للوطن الأم، فنجده غالبا ما يتحدث عن قضايا مجتمعه. وقد مرّ الأدب الفلسطيني بمراحل عدة منذ عام 1948، فبرزت روايات تحكي عن أحوال الفلسطينيين في الشتات كما هو حال روايات جبرا إبراهيم جبرا، ثم ظهرت الروايات التسجيلية للمقاومة الفلسطينية كما في رواية ‘عائد إلى حيفا’ لغسان كنفاني، وفي المرحلة الأخيرة تحولت الرواية لوصف الحنين للوطن بعدما خرج منه قسرا وجورا، كما في رواية ‘المتشائل’ لإميل حبيبي، فأفادت التصنيفات في معرفة تاريخ الرواية في فلسطين منذ النكبة إلى اليوم”.الأدب العربي يحتاج إلى خلق أشكاله الخاصة، والتوصيفات ﻻ تقدم إضافة حقيقية وربما تشوش عمل الروائي وتتابع الكاتبة “على صعيد تعدد الطبعات والنشر يعود إلى مبدأ العرض والطلب وتسويق الكتب، حيث يميل القارئ لما يحاكي همه اليومي ويُسلط الضوء على قضايا مجتمعه وقضايا الشعوب التي يقرأ عنها في الصحف أو يشاهد أخبارها في التلفزيون أو شبكات التواصل الاجتماعي. تُعتبر التصنيفات الأدبية تصنيفات نوعية تفيد بإعطاء نبذة من قبل الناشر والكاتب عن روايته، كإشكالات رسمية، لا تؤثر على تقييم مضمون الرواية، حتى أن مصطلحات مثل: رواية منفى، رواية مقاومة، رواية مقهورين، تعتبر تصنيفات فرعية تتلاشى في موازاة الجنس الأدبي من شعر، رواية، قصة، ومقال”. ويشير الروائي الجزائري عبدالرزاق بوكبة إلى أن الرواية نسيج من الإشارات والمواقف والأمزجة والمعارف والعلاقات الخاصّة بمرحلة معينة. تصوغها الذات الكاتبة بوعي حاد في معمار خاص وبلغة خاصّة لتصبح وثيقة جمالية وإنسانية وتاريخية. ولا تشفع لها إنسانية الموضوع المختار بأن تأخذ مصداقية إلا لم يكن التناول بشروط الرواية وأصولها وفنياتها وتقنياتها وجمالياتها. ويتابع “ما حصل في الفضاء العربي خلال السنوات الماضية ليس بسيطا أو عابرا. بالتالي فهو حقل روائي خصب جدا. غير أن كتابته بعيدا عن شروط الرواية المذكورة والمتعارف عليها لا تجعل من العمل الروائي روائيا. عادة ما تستفحل المتاجرة لدى الروائيين والناشرين معا في مثل هذه المقامات المثيرة للفضول لدى شعوب الأرض، فهو ذو سحر خاص. فيتمّ الاعتماد على الشكليات عوض الجوهر، كأن تقدم الرواية على أنها رواية المنفى أو رواية المقموعين أو رواية الطغاة لخلق إغراء تجاري على غرار ما كان يحدث مع الجنس. من هنا تشتهر وجوه سطحية ليست لها قيمة إلا كونها كتبت في هذه الحقول على حساب وجوه كتبت بشروط الكتابة. غير أن هذا النوع من الكتابات سرعان ما ينطفئ لأن عمره من عمر الفقاعة لا الشلال”.
مشاركة :