القاهرة: أحمد أبو المعاطي منذ اندلاع ما يسمى ب«الثورة الإسلامية» في العام 1979، وظهور ما يعرف ب«نظام الملالي» في طهران، والدولة الفارسية تواصل سعيها المحموم باتجاه تصدير ثورتها إلى المنطقة العربية، انطلاقاً من مبدأ عقدي لعبت الحوزات الدينية، الدور الأكبر في تكريسه عبر قرون، ينطلق من وجوب تمهيد المنطقة وإعدادها من أجل عودة «الإمام الغائب»، الإمام الثاني عشر والأخير من أئمة الفقه الإيراني، الذي تؤمن الدولة الفارسية إلى درجة اليقين، أنّه «الإمام المتمم» الذي يأتي في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلاً، بعدما ملئت ظلماً وجوراً.على مدار عقود لعبت المؤسسة الدينية في إيران، دوراً كبيراً في تحديد ملامح السياسة الخارجية، وبخاصة تجاه دول المنطقة العربية، فعملت بشتى الصور على تكريس المذهبية، بمغازلة الأقليات في العديد من البلدان العربية، بهدف نشر مذهبها القائم على ما يعرف ب «ولاية الفقيه»، فاستقبلت حوزاتها العلمية عشرات من الدارسين من مختلف البلدان العربية، وبخاصة العراق ولبنان واليمن، واستغلت فترة دراستهم العلمية في الحوزات، ل«تثويرهم»، وتأهيلهم للعب أدوار بالغة الأهمية في مجتمعاتهم، حتى إذا ما حانت اللحظة المواتية، تحول هؤلاء إلى قادة ميدانيين، لم يخف بعضهم ميولاً انفصالية واضحة، على نحو ما جرى في العراق إبّان سقوط نظام البعث، ومن قبله لبنان التي لعبت الحوزات دوراً بارزاً في إشعال الحرب الأهلية بها منتصف السبعينات من القرن الماضي، وهي الحرب التي استمرت لنحو 15 عاماً، وسقط خلالها أكثر من خمسة عشر ألفاً، من بلد لم يزد تعداده في تلك الفترة عن ثلاثة ملايين نسمة.مثل سقوط العراق في أعقاب حرب الخليج الثانية، فرصة ذهبية لطهران للبدء في تنفيذ مشروعها المذهبي الذي يستهدف بسط كامل هيمنتها الروحية على الأقل، على عدد كبير من الدول العربية، وقد استغلت في ذلك التقسيم الطائفي الذي كرسه الاحتلال الأمريكي في العراق، وهيمنة قوى سياسية تدين بالولاء للمراجعات الدينية في طهران على مقاليد الحكم، وهو ما أثار الشهية الإيرانية لمد نفوذها في دول المنطقة، باتخاذ العراق جسراً لهذا النفوذ إلى شاطئ المتوسط مروراً بسوريا، فعملت على نشر الميليشيات المسلحة على طول المنطقة، بالتوازي مع خطة لتهميش الأقليات المختلفة معها مذهبياً في المناطق الخاضعة لهيمنتها، ولعل ذلك يفسر الدور الكبير الذي لعبته إيران للإبقاء على النظام السوري، باعتباره الممر الآمن الذي يربط طهران بأهم مشروع لها في المنطقة العربية، وهو حزب الله في لبنان، ودعم ما يلعبه الأخير من أدوار تسعى للهيمنة على القرار اللبناني.لعبت حالة الضعف الواضحة في النظام السياسي العربي، وما صحب ذلك من غياب لاستراتيجية عربية موحدة في مواجهة الأزمات، دوراً كبيراً في نجاح إيران في مخططها الذي يستهدف إذكاء نيران المذهبية، وإشعال الصراع الطائفي في غير مكان بالمنطقة العربية، مستغلة في ذلك حالة عدم الاستقرار التي ضربت المنطقة في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق، واندلاع ما يعرف ب«ثورات الربيع العربي» الأمر الذي مهد الطريق أمام بروز العديد من الجماعات المسلحة، مثل «داعش» وغيرها من التنظيمات الجهادية الأخرى، بالتوازي مع ظهور الميليشيات المسلحة التي شكلتها إيران بقوة، عقب سقوط بغداد، وامتداد تلك الميليشيات حتى مضيق باب المندب في اليمن ممثلة في الحوثيين، في انعكاس واضح، حسبما ترى كثير من الدراسات الاستراتيجية، لتصاعد دور قوى إقليمية غير عربية في المنطقة، بسبب سهولة اختراق النظام الإقليمي العربي، عقب انهيار أنظمة عدة بدءاً من تونس مروراً بمصر وليبيا ثم اليمن وسوريا، إذ سعت إيران إلى استغلال هذا الوضع، بالإيحاء بأن نموذجها الإسلامي هو النموذج الأمثل للتطبيق، وأن النظام الديمقراطي في صورته الغربية غير ملائم للمنطقة العربية.تنطلق السياسة الإيرانية تجاه المنطقة العربية، حسبما تقول الباحثة رضوى عبد الجليل في دراسة لها تحت هذا العنوان، صادرة عن المركز الديمقراطي العربي، وفق استراتيجية تستهدف الحصول على اعتراف دولي بها كقوة إقليمية، تمتلك مقومات هذا الدور، وتسيطر على أدواته، بما تتمتع به من موقع يمكنها من التأثير الاقتصادي والسياسي والثقافي، في وقت تعاني فيه المنطقة العربية، من عدم قدرتها على التصدي لذلك التأثير، في ظل غياب وجود مشروع قومي عربي موحد من ناحية، وتخبط السياسة الأمريكية من ناحية أخرى، حيث تمتلك إيران مجموعة من مقومات ما يمكن وصفه ب«القوة الناعمة» التي تمكنها من تصدير فكر الثورة الإسلامية، ربما كان من أهمها الثقافة الإيرانية التي تشترك فيها مع دول المنطقة العربية، استناداً للامتدادات المذهبية والطائفية المشتركة، وقد ساعد ذلك إيران إلى حد كبير، في نشر حوزاتها العلمية في عدد من دول المنطقة العربية، مثل سوريا ولبنان، بل ونجاحها في إقامة بعض الحسينيات في مصر، أثناء فترة حكم جماعة الإخوان.وتعد السينما والدراما الإيرانية، واحدة من أبرز أدوات القوة الناعمة التي تعتمد عليها طهران في التمدد والانتشار بالمنطقة العربية، إذ تستخدم إيران ما يقرب من مئة قناة فضائية تبث إرسالها على أقمار في نفس المدار الذي يشغله القمر المصري نايل سات لبث موادها الإعلامية، وكثير منها باللغة العربية، في وقت لم تفكر فيه أي من الدول العربية في بث قناة باللغة الفارسية لمواجهة هذا المد المتصاعد، وقد كان لافتاً على مدار السنوات الأخيرة، انتشار عدد غير قليل من الأعمال السينمائية والدرامية التي أنتجتها إيران في العديد من المحطات الفضائية اللبنانية والعراقية، ومتابعة قطاع كبير من الجمهور العربي لهذه الأعمال، خصوصاً أنها خرجت في صورة فنية متميزة إنتاجاً وإخراجاً، حتى وإن انطوت على مغالطات، فضلاً على ما أثارته من جدل خصوصاً فيما يتعلق بمسألة تجسيد الأنبياء على الشاشة، لكن ذلك لم يمنع أن يتحول الفن السابع إلى أحد أهم مقومات القوة الناعمة الإيرانية، التي دأبت حسبما تقول عبد الجليل في دراستها القيمة، على استغلال حساسية القاعدة العربية العريضة تجاه أمريكا والغرب، ووظّفتها في إطار سعيها لتعزيز قوتها الناعمة في المنطقة، واستطاعت من خلال هذا الخطاب أن تكسب قطاعات لصالحها خاصة على الصعيد الإقليمي، بعدما جعلت القضية الفلسطينية قضية محورية في السياسة الخارجية الإيرانية، وهو ما ساهم إلى حد كبير في خلق بيئة مناسبة لتقبل الدور الإيراني الإقليمي.منذ بداية انطلاقها في العام 1979، وثورة الملالي في إيران تقدم نموذجاً في العنف بالنسبة للعديد من الميليشيات المسلحة، ولعل واقعة احتجاز الدبلوماسيين الأمريكيين في السفارة الأمريكية في طهران، خير تجسيد لهذا التوجه الذي قدمته الثورة الإيرانية، عندما احتجز متظاهرون إيرانيون الدبلوماسيين لمدة زادت على أربعمئة يوم داخل مبنى السفارة، في حادثة عكست برأي كثير من المراقبين «تطرف ثورة» قدمت النموذج للعديد من التنظيمات الإرهابية التي ظهرت لاحقاً وعلى رأسها تنظيم القاعدة، فيما عرف في أدبيات تلك الميليشيات ب«إدارة التوحش»، وهو التوجه الذي بلغ ذروته في نوفمبر من العام نفسه، عندما تمكنت «جماعة جهيمان الإرهابية» من احتلال المسجد الحرام في مكة، في حادث إرهابي صدم مشاعر ملايين المسلمين في أنحاء العالم، وخلف وراءه مئات من الضحايا، وقد كانت تلك الحادثة هي البداية لسلسلة من العمليات التي كانت تستهدف تقويض استقرار المنطقة العربية، بدءاً من مجزرة بيروت في العام 1983 التي قتل فيها نحو مئتي أمريكي، وأكثر من خمسين فرنسيًا في سلسلة من الهجمات الانتحارية، مروراً بتفجيرات الخبر في العام 1996 الذي قتل فيه نحو 19 أمريكيًا.وتشير العديد من الدراسات المتخصصة إلى العلاقة الوثيقة التي ربطت بين طهران وتنظيم القاعدة، وبعض عناصر من حركة طالبان، على رغم الاختلاف المذهبي الواضح، إذ إن الهدف الرئيسي لطهران ظل دائماً هو تقويض أمن المنطقة، وخلق العديد من بؤر التوتر بها، باعتبار ذلك هو جواز المرور السريع لها لبسط نفوذها على مناطق التوتر، وزيادة موجاته التخريبية على نحو ما جرى في العديد من الحوادث التي ضربت سوريا ولبنان والبحرين واليمن والمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، وبحسب ما يقول سعد الجبري، عضو المجلس الدولي في مركز «بيلفر» للعلوم والشؤون الدولية، فإن الأسلوب الإيراني كان يعتمد دائماً في ذلك على «خليط غير متجانس من الجماعات المضللة والمستغلة، وأيديولوجية متطرفة تدين بالولاء الديني لإيران وشبكاتها الإرهابية».يرجع كثير من الباحثين، تأجج الصراع المذهبي في المنطقة العربية، خلال السنوات الأخيرة إلى الدور الكبير الذي لعبته أجهزة الاستخبارات الإيرانية، عبر تمهيد الأرض لغرس بذور الكراهية بين المذاهب، وافتعال الأزمات بينهم عبر دفع بعض الموتورين من غلاة المتطرفين في جهة إلى قذف الصحابة، والافتئات على أمهات المؤمنين، وإطلاق متطرفين من الجانب الآخر للعديد من الفتاوى التي بلغت حد التكفير وإخراج الإيرانيين من الملة، ما هيأ الأجواء مع مرور الوقت إلى ظهور العديد من الجماعات المسلحة المدعومة من إيران، مثل الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان، إلى جانب عدد من الجماعات الأخرى في العراق، أعلنت عن وجودها بوضوح عقب سقوط نظام البعث، ولجأت إلى العنف المفرط الذي تراوح ما بين استخدام السيارات المفخخة، واستهداف المساجد والتصفيات الجسدية، قبل أن تدخل جماعات سنية متطرفة أخرى على خط المواجهة في سوريا، في مواجهة هذه الميليشيات.رغم حالة الفقر الكبيرة التي جناها شعبها من سياساتها القائمة على إثارة الفتن، تستهدف إيران عبر سياستها في المنطقة العربية التي تعتمد على إذكاء الصراعات المذهبية والطائفية، سلسلة من الأهداف الرئيسية ربما كان من أهمها الوصول إلى البحر المتوسط الذي يمثل إطلالة متميزة لها على أوروبا، وقد نجحت إلى حد بعيد في تحقيق ذلك، عبر وجودها القوي في الجنوب اللبناني ممثلاً في حزب الله، فضلاً عن الوجود في سوريا، وهي كذلك تستهدف إطلالة أخرى مميزة على إفريقيا عبر بوابة اليمن، بسيطرتها على مضايق مهمة كمضيق هرمز ومضيق باب المندب، ومن ثم الحركة البحرية في قناة السويس، وهي تتخذ في سبيل تحقيق ذلك، من ادعاءاتها بالعداء للولايات المتحدة الأمريكية، ودعمها للقضية الفلسطينية «حصان طروادة» لكسب التعاطف العربي، بينما الحقائق على الأرض تشير إلى سياسة توسعية استعمارية، تكتمل حلقاتها باتساع الهلال الشيعي، الذي بات يضم العراق وسوريا وجزءاً كبيراً من لبنان من ناحية، ويمتد بخطوات وئيدة باتجاه البحرين واليمن، ما يجعل من المشروع الإيراني، صورة تكاد تكون طبق الأصل للمشروع اليهودي، الذي يستهدف السيطرة على مقدرات أمة، لا تزال تتلاطمها الأمواج في بحور المصالح الدولية الجديدة.
مشاركة :