د. أيمن شبانة* في السادس والعشرين من ديسمبر/كانون الأول الماضي، قام وزير الخارجية المصري سامح شكري بزيارة لإثيوبيا، تستهدف إنقاذ المسار التفاوضي لإدارة أزمة سد النهضة، باقتراح إدخال البنك الدولي كوسيط محايد في الأزمة، بعد مسيرة تفاوضية تجاوزت ستة أعوام من دون أي بادرة أمل في الوصول لتسوية مقبولة من الأطراف الثلاثة المعنية (مصر وإثيوبيا والسودان)، حيث تتمسك إثيوبيا بنفي التخطيط للإضرار بمصر، فيما تتراكم المواقف السودانية الداعمة لإنشاء السد، بينما توشك حبال الصبر المصري على النفاد، في ظل قلق شعبي عارم بشأن المستقبل المائي، خاصة مع اقتراب موعد التشغيل التجريبي للسد.بدأ مسار التسوية التفاوضية في مايو/أيار2011 بتشكيل لجنة ثلاثية تضم خبراء من الدول الثلاث المعنية، إضافة لخبراء دوليين، مروراً بإصدار «بيان النقاط السبع» عن الرئيس المصري ورئيس الوزراء الإثيوبي، على هامش قمة الاتحاد الإفريقي بغينيا الاستوائية في يونيو/حزيران 2014، الذي أكد الالتزام بالتسوية السلمية للأزمة، وعدم الإضرار. تلا ذلك تشكيل «لجنة وطنية»، تضم خبراء من الدول الثلاث، حيث صاغت اللجنة خريطة طريق للتسوية، يتم خلالها إنجاز دراسات تتعلق بالآثار الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للسد خلال ستة أشهر (سبتمبر2014- مارس2015)، عن طريق مكتبين استشاريين عالميين يتم اختيارهما. لكن هذه الخريطة لم تنفذ، فكان المخرج هو توقيع «اتفاق إعلان المبادئ» بالخرطوم في 23 مارس/آذار 2015، الذي تضمن موافقة مصر على إنشاء السد، مقابل احترام إثيوبيا لحقوق مصر المائية، وتقديم التعويض المناسب للأطراف المتضررة لدى حدوث ضرر ذي شأن، والتنسيق بين الدول الثلاث بشأن تشغيل السد والملء الأول له. لم يغير إعلان المبادئ شيئاً في الموقف الإثيوبي، الذي سعى منذ البداية لفرض السد كأمر واقع على مصر، عبر التسويف، والتدرج في الإفصاح عن مواصفات السد، والوعود بعدم المساس بالحصة المائية المصرية، من دون ترجمة ذلك في ممارسات فعلية. فتمسكت إثيوبيا بالتحكم في مسار المفاوضات، بتحديد وتيرتها، وجداول أعمالها. وتحفظت على تقرير اللجنة الثلاثية في مايو/أيار 2013، وفسرته لمصلحتها. ورفضت إشراك خبراء دوليين في أعمال اللجنة الوطنية، وعرقلت إنفاذ خريطة الطريق، باستنزاف الوقت والجهد في التفصيلات الفنية والإجرائية المتعلقة، باختيار المكتبين الاستشاريين وتحديد آليات عملهما. كما رفضت تضمين إعلان المبادئ بنداً يتيح اللجوء للتحكيم أو القضاء الدوليين لتسوية النزاع، مفضلة أسلوب الوساطة والتوفيق، وهي آليات سياسية لا تلزمها أو تقيدها بأي شيء. في الاتجاه ذاته رفضت إثيوبيا إرجاء إنشاء السد حتى الانتهاء من الدراسات الفنية. وعارضت تعديل تصميم السد، وتطوير أسلوب تشغيله، سواء بزيادة عدد الفتحات بجسم السد من اثنتين إلى أربع، أو بتقليل حجم التخزين في بحيرة السد من 74 مليارم3 إلى الرقم الذي أعلنت عنه إثيوبيا بنفسها لدى تدشين السد وهو 14 مليارم3. كما رفضت زيادة عدد سنوات التخزين لتصل لستة أعوام، لتقليل الأثر السلبي لاحتجاز المياه بالنسبة لمصر. لكن القشة التي قصمت ظهر البعير جاءت مع إعلان التحفظ الإثيوبي على التقرير الاستهلالي للمكتبين الاستشاريين في نوفمبر/تشرين الثاني2017، رغم الموافقة المصرية غير المشروطة عليه، وإعلانها عن إنشاء 63% من مشروع السد، وتأهبها للتشغيل التجريبي، ما اضطر وزير الموارد المائية والري المصري للإعلان عن تعثر المسار التفاوضي. وكان الدعم الإقليمي والدولي دافعاً أساسياً للتشدد الإثيوبي. فعلى المستوى الإقليمي أعلنت السودان تأييدها الصريح للسد على لسان الرئيس البشير في ديسمبر/كانون الأول 2013، من دون الاكتراث بالضرر المحتمل بالنسبة لمصر. كما رحبت أوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندي بالسد كمشروع للتنمية الإقليمية، وكمصدر للطاقة الكهربائية رخيصة الثمن. أما الكونغو الديمقراطية فقد التزمت الحياد، انشغالاً بمشكلاتها الداخلية، واعتماداً على وفرتها المائية، حيث يمر بأراضيها نهرا النيل والكونغو، بينما سعت جنوب السودان لاستغلال الأزمة في تعظيم مصالحها، مستفيدة من تباين مواقف أطرافها، قبل أن تنكفئ على ذاتها بعد حربها الأهلية منذ ديسمبر 2013. وبالتالي لم يقف في الصف المصري من دول حوض النيل سوى إريتريا. وجاءت المواقف الدولية أيضاً داعمة لإثيوبيا، سواء بتوفير الدعم السياسي، وضخ الاستثمارات، كما هو الحال بالنسبة لقطر، أو عبر نقل خبرة المفاوضات الماراثونية، وتحريض إثيوبيا على التعامل مع النيل ليس باعتباره نهراً دولياً تحكمه قاعدة الملكية المشتركة، وإنما باعتباره نهراً عابراً للحدود، يخضع لسيادتها المطلقة، وفقاً لنظرية هارمون، مثلما تفعل تركيا، أو عن طريق دفع أديس أبابا لرفع سقف المطالب خلال المفاوضات، واتباع سياسة شد الأطراف، مثلما تخطط «إسرائيل» بشكل مستتر، خاصة أن إحدى شركاتها ستكون مسؤولة عن توزيع الكهرباء المتولدة عن السد. لذا كان تعثر المسار التفاوضي هو النتيجة المنطقية لتلك المقدمات غير المبشرة، وهو ما انعكس على العلاقات بين أطراف الأزمة. فلم يشارك الرئيس المصري في القمة التاسعة والعشرين للاتحاد الإفريقي بأديس أبابا في يوليو2017/تموز . ولم يلتق رئيس الوزراء الإثيوبي على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 2017. كما تأجلت زيارة الأخير لمصر، التي كانت مقررة في ديسمبر الماضي. وعلى التوازي بلغت العلاقات المصرية- السودانية درجة غير مسبوقة من التردي، على خلفية أزمة السد، والتي أيقظت معها النزاع الحدودي بشأن «حلايب»، وأعادت إلى الواجهة الاتهامات السودانية لمصر بالاحتلال والاستعلاء ودعم المتمردين في دارفور. في خضم هذه الأحداث المتلاحقة، جدد الرئيس المصري التأكيد أن أمن مصر المائي «خط أحمر»، لا يمكن لأحد العبث به. ودعا الجهات السيادية لدراسة الأمر، بما قد يفضي لرفض البرلمان التصديق على اتفاق إعلان المبادئ، لينعدم أثره بالنسبة لمصر. كما بعث برسالة عبر وزير الخارجية، ربما تكون هي الفرصة الأخيرة لإنقاذ المسار التفاوضي، وهي الرسالة التي قابلتها إثيوبيا برد لا يتسق وخطورة الموقف، حيث طلبت مزيداً من الوقت لدراسة المقترح المصري بدخول البنك الدولي كوسيط في الأزمة، من دون الاكتراث بتحديد موعد لهذا الرد.وعلى ذلك تزايدت ضغوط الرأي العام المصري من أجل إحالة ملف سد النهضة إلى مجلس الأمن الدولي، باعتباره الجهة الأولى المنوط بها حفظ السلم والأمن الدوليين. فيما طالب البعض الآخر باتخاذ كل الإجراءات التي تكفل لمصر صيانة مصالحها المائية، إعمالاً لحق الدفاع الشرعي عن الذات، وفقاً للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، من دون تحديد سقف لتلك الإجراءات، باعتبار أن أي بديل مهما بلغت تكلفته فإنه لن يكون أكثر تكلفة من تحول النزاع الإقليمي بشأن السد إلى صراع داخلي، تدور رحاه بين المصريين أنفسهم، على خلفية التنافس على المياه، وتحديد أولويات استخدامها. *نائب مدير مركز دراسات حوض النيل - معهد البحوث والدراسات الإفريقية (جامعة القاهرة)
مشاركة :