لم ينتبه ترامب إلى أن عظمة أميركا أو مكانتها في العالم، تتأتى أساسا من التزاماتها الدولية، ومن نمط القيم التي تتبناها، وأن الانسحاب من كل ذلك سيعزلها ويقلل من قدرتها على فرض أجنداتها.العرب ماجد كيالي [نُشر في 2018/01/04، العدد: 10859، ص(9)] منذ مجيئه رئيسا للإدارة الأميركية، بل ومنذ ترشحه للرئاسة، بدا دونالد ترامب شخصا من خارج النسق السياسي للولايات المتحدة الأميركية، وفريد نوعه بالمقارنة مع الرؤساء الذين سبقوه إلى البيت الأبيض. إذ جاء من خارج المؤسسة الحزبية، الجمهورية والديمقراطية، ومن خارج التيارات السياسية ذات الرؤى الواضحة أو المحددة، كما حصل مع الرئيس بوش الابن، الذي كان يتبنى أطروحات تيار المحافظين الجدد. فوق كل ذلك، فإن هذا الرجل صعد بدفع من قوة مركزه المالي وبإجادته لعبة الإعلام، واللعب على عصب التوترات الاجتماعية والأمزجة الشعبوية في المجتمع الأميركي، بحيث استطاع أن يقدم نفسه كرجل المرحلة، الأمر الذي أمّن له الحد اللازم من الأصوات لإيصاله إلى سدة الرئاسة. المهم أن هذا الرجل وصل إلى البيت الأبيض مع وعد بتجديد عظمة أميركا، وتزعّمها كقطب أوحد في العالم، متوعدا بتقليص التزاماتها الدولية، على طريقة من يعطي يأخذ، أو من يرضخ ينال الجوائز. ومعلوم أنه في كل ذلك وصل حد التساؤل عن جدوى الأمم المتحدة، والتساؤل عن الدعم المالي لها من قبل بلده، وصولا إلى التشكيك في جدوى حلف الناتو، والدعوة إلى تقليص حجمه بل وحتى التهديد بالانسحاب منه، مرورا بتساؤلاته عن تعديل ميزان التجارة الأميركي مع الصين، وإنشاء جدار على الحدود مع المكسيك بتمويل مكسيكي. في الغضون لم ينتبه ترامب إلى مسألتين مترابطتين، أولاهما، أن عظمة أميركا أو مكانتها في العالم، تتأتى أيضا وأساسا من التزاماتها الدولية، ومن نمط القيم التي تتبناها أو تدعي تبنيها والدفاع عنها، وأن الانسحاب من كل ذلك سيعزلها أو يقلل من قدرتها على فرض أجنداتها السياسية والاقتصادية. وثانيتهما أن الولايات المتحدة المنعزلة لن تكون هي ذاتها، لأن قوتها لا تتحدد تبعا لقوتها الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والعسكرية فقط، ولكنها تتحدد أيضا من مسارات العولمة التي أطلقتها بفضل قوتها تلك، ومن قدرتها على فرض نموذجها وقيمها، أي قيم الحرية والديمقراطية التي ظلت تدّعيها طوال القرن العشرين. ومن تفحص السياسات التي انتهجها ترامب، وطريقته في الإدارة، ونمط علاقاته مع الدول الصديقة الأخرى، طوال عام من وجوده في البيت الأبيض، يمكننا ملاحظة اهتزاز مكانة الولايات المتحدة وضياع هيبتها في العالم، وحتى فقدانه هو لجزء كبير من رصيده في المجتمع الأميركي. هكذا بدأ ترامب عهده على الصعيد الداخلي بمحاولته إنهاء برنامج الضمان الصحي، الذي تم تبنيه في فترة سلفه باراك أوباما، لكنه أخفق في هذه المحاولة، إذ لم يستطيع تأمين النصاب اللازم لذلك بسبب رفض عديدين في الحزب الجمهوري لذلك. كما بدأ هذا العهد بمحاولته التشكيك بالمواطنين الأميركيين المسلمين، الأمر الذي وجد معارضة له لدى قطاعات واسعة من المجتمع الأميركي من مختلف الألوان والشرائح. أما على الصعيد الخارجي فقد عمل على إنهاء التزام الولايات المتحدة باتفاقية المناخ الموقعة في باريس (2015)، ضد إرادة الدول الأوروبية، وهو ما ألّب عليه حكام ولايات أميركية كثر منها واشنطن ونيويورك وكاليفورينا، التي أعلنت ضرورة الالتزام بهذا الاتفاق. بعد ذلك أعلنت الولايات المتحدة انسحابها من “الميثاق العالمي للهجرة”، الذي أقرته المنظمة الدولية بالإجماع (2016) تحت اسم “إعلان نيويورك” بهدف تحسين ظروف اللاجئين والمهاجرين، إضافة إلى انسحابها من منظمة اليونسكو، بسب اعتراضها على موقف لها ضد السياسات الإسرائيلية. ولعل قمة العزلة للولايات المتحدة الأميركية تجلت في رفض قرار ترامب القاضي بالاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل، إذ اضطرت مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي لاستخدام حق الفيتو، ضد مشروع قرار يخالف قرار ترامب، إذ وجدت نفسها وحيدة مقابل 14 صوتا، ضمنها بريطانيا وفرنسا. وقد تكرر ذات الأمر في التصويت على القرار الذي اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة، في جلستها الاستثنائية (21 ديسمبر الماضي)، والذي أكدت فيه على حق الفلسطينيين في القدس الشرقية بما يتنافى مع القرار الأميركي، وذلك رغم تهديد الولايات المتحدة للدول الأخرى من مغبة التصويت بما يخالف وجهة نظرها. كاتب سياسي فلسطينيماجد كيالي
مشاركة :