مئوية الثورة الروسية فبراير 1917

  • 1/5/2018
  • 00:00
  • 16
  • 0
  • 0
news-picture

يعقوب يوسف الإبراهيم| هناك سياقات متعددة لكتابة التاريخ تظهر التطور المعرفي والارتقاء الترشيدي تجدها محكمة مرصوصة بأحداث قطعية من قرائن ودعائم. وعلى النقيض من ذلك ترى مسارات مخالفة أصابها الجمود وغلب عليها التقليد والتكرار، لم تستفد من فيض ما يطرح من إسهامات، بل ظلت تموج بأشكال لا تعطي مضموناً صحيحاً. لكنها جعلت منها حقيقية واقعة لا تحتاج إلى مزيد، وكأنها بذلك تدعو إلى إغلاق باب الاجتهاد إذا صح القول. وقد تجلى ذلك واضحاً وضمن هذا المسلم في ما يكتب حالياً عن مئوية الثورة الروسية عام 1917. ولا أقول هنا مردداً ثورة أكتوبر لأن ذلك العام قد حمل ثورتين وصفنا الثانية مجازاً بالثورة لكنها في الحقيقة كانت انقلاباً، كما سوف نفصِّله في سياقنا للموضوع. أما الأولى فهي الثورة الحقيقية التي كانت نتيجتها تنازل القيصر عن العرش ونهاية النظام الملكي وحكم سلالة رومانوف التي سادت 310 أعوام فكانت في فبراير عام 1917. كما أن الشهرين المارين (فبراير وأكتوبر) هما حسب التقويم الجولياني القديم الذي كان قائماً وقت ذاك في روسيا فقط، يقابلهما حسب التقويم الجريجوري المستخدم حاليا شهرا (مارس ونوفمبر)، وهو فخ يقع فيه من كتب عن الموضوع بالعربية. فتفسير النص مرهون بتاريخه، ولا يمكن الفصل في هذا المنحى إطلاقاً من دون التقيد بالمراحل الزمنية للترتيب التقويمي، وشرحها ما أمكن حتى ينضبط التسلسل التاريخي الدقيق للأحداث ضمن نسق موحد، وهو أمر لا يمكن تجاهله أو إغفاله.ولد عام 1881 في مدينة سيمبرسك حالياً اليوناوفيسك (أبوه كان مدير مدرسة ثانوية درس فيها لينين)، درس القانون في جامعة سان بطرسبورغ وبرع في مهنة المحاماة، واشتهر بالدفاع عن المتهمين ضد الحكم القصيري، انتخب في مجلسي الدوما الثالث والرابع نائباً معارضا للحكم القيصري، وبعد تنازل القصير نيقولا الثاني في 2 مارس 1917 انتخب وزيرا للعدل في الحكومة المؤقتة الأولى برئاسة الأمير جورجي لوفوف، وفي الحكومة الثانية انتخب وزيراً للحرب في مايو، وفي يوليو ألفت الوزارة الثالثة المؤقتة برئاسته، وكان وطنياً محبوباً ونجماً للحكومة، اصدر بعض القوانين لتقوية معنوية الجيش على جبهات القتال، واعاد عقوبة الاعدام بعد أن ساءت الأمور وكانت قد ألغيت بعد تنازل القيصر، ورفض أن يتولى الأمير ميخائيل «أخو القيصر»، معلناً نهاية الحكم القيصري، ورفض اعدام القيصر قائلاً: انه لن يصبح (مورا الثورة الروسية) الراديكالي، منفذ ومخطط مذبحة سبتمبر 1789 في باريس مع روبسبير، بل على العكس اهتم بالقيصر وعائلته على الرغم من أنه كان يريد التفريق بين القيصر وزوجته، لأنها لم تكن تتمتع بعلاقة وسمعة طيبة بين أوساط الشعب، وحاول تسهيل ارسال القيصر إلى المنفى في بريطانيا، ولكنه لم يوفق في ذلك لسوء علاقته بالسفير البريطاني في بيتروغراد، بل أرسل القيصر وعائلته إلى توبولوسك للمحافظة على حياته.إعلان النظام الجمهورياختلف مع القائد الأعلى للقوات القوزاق الثائرة، الجنرال كورنيلوف، الذي حاول مهاجمة الحكومة المؤقتة، ولكن تهديده لم ينجح، لرفض عمال السكك الحديدية نقل (قواته في التقويم الجولياني 22/27 أغسطس/ التقويم الجريجوري 4/9 سبتمبر بتعطيل الإشارات وعرقلة الجسور وخطوط السكك، وكانت تلك الحادثة بداية نهاية حكومة كيرنسكي مما هيأ الفرصة للبلاشفة بالانقلاب وانتزاع الحكم.كما تجاهل النداءات على أن تكون الحكومة مؤلفة من الاشتراكيين فقط، مما أدى إلى وقوف الاشتراكيين بكل أطيافهم مع البلاشفة، علماً بأن الرأي العام كان ضد ذلك، لأن زعماء البلاشفة رجعوا إلى روسيا بواسطة الألمان ويدعون لوقف الحرب واحلال السلام مع المانيا، فشكل وحدات عسكرية نسائية أسماها قوات الموت اغاظة للبلاشفة في طلبهم وقف الحرب ضد ألمانيا.وهنا أعلن كيرنسكي النظام الجمهوري للحكم في روسيا في سبتمبر 1917، لكن الأمور بدأت تفلت من يديه منذ يوليو (على الرغم من أن لينين في ذلك الوقت كان هارباً إلى فنلندا) كما قام في 14 سبتمبر بعقد مؤتمر كبير لجميع القوى السياسية وأعضاء المجالس، ومن ضمنهم الأعضاء القدامى في مجلس الدوما، استمر 9 أيام حتى 23 سبتمبر شمل ألف وستمئة مشارك والقى خطابه وهو يرتدي بزة عسكرية. هاجم فيه البلاشفة على محاولاتهم بالتحريض ضد الحكومة المؤقتة والانقلاب عليها.ما يؤخذ على كيرنسكي حبه للمظاهر والفخفخة ومنها انتقاله للإقامة في القصور الملكية واحاطة نفسه بالأبهة فسكن في جناح القيصر الاسكندر الثالث في قصر ميكايلوفاسكي وأخذ يرتدي اللباس العسكري، ويزور جبهات القتال، كأنه جنرال كبير مصمماً على استمرار الحرب حتى النهاية، وان كان لا يريد أن يصبح (مورا)، ولكنه حتما تمشى على خطى نابليون، هكذا كان يظهر في الصور وإبهامه على صدره داخل معطفه، في الشكل الذي خلدته لوحات نابليون في كل الأوقات، لكنه تشارك معه بالفشل نهاية للمطاف.الأيام الأخيرةفي يوم الاثنين 23 اكتوبر (التقويم الجولياني) غادر كيرنسكي القصر الشتوي حيث يجتمع فيه مجلس وزراء الحكومة المؤقتة إلى مبنى الحامية العسكرية في قصر ميكايلوفسكي وارسل برقية إلى القيادة العسكرية في باسكوف يطلب منها نجدة بإرسال قوات من القوزاق، لكنها لم تصل والسبب في ذلك أن قيادة تلك القوات كانت على خلاف معه اثر محاولة الجنرال كونيلوف الانقلابية كما مر بنا سابقاً.وكانت الحرب الأهلية الروسية قد نشبت بين مناوئي الانقلابيين والمؤيدين للحكومة المؤقتة من افراد الجيش الروسي أو ما أطلق عليهم بالروس البيض، ومجموعات من أفراد الجيش الفارين من جبهات الحرب وطلبة المدارس الحربية والبحرية (كديت) أو ما يطلق عليهم بالحرس الأحمر.في 25 أكتوبر نفذ البلاشفة مخطط الاستيلاء على مواقع مهمة قرب القصر الشتوي وعطلت التليفونات وقطع الاتصال نهائياً واعتبرت العاصمة تحت سيطرتهم.قبيل ظهيرة ذلك اليوم 25 اكتوبر وفي تمام الحادية والنصف قرر رئيس وزراء الحكومة المؤقتة كيرنسكي مغادرة بيتروغراد ولكنه لم يستطع الحصول على وسيلة نقل لعدم توفر سيارات صالحة للعمل، فاستعان بالسفير الأميركي ديفيد فرانسس الذي قام بإرسال سيارة تابعة للسفارة من طراز رينو تتبعها سيارة أخرى عليها علم الولايات المتحدة لنقل كرينسكي وكان ذلك اليوم 25 أكتوبر (التقويم الجولياني) 7 نوفمبر الذي أعلن فيه البلاشفة الثورة بعد حصولهم على تفويض المجلس (السوفيت) الحكم الذي أصبح تحت سيطرتهم والهيمنة على بيتروغراد واعلان سقوط حكومة كرينسكي، في ليلة 26 اكتوبر هوجم القصر الشتوي وتم اعتقال وزراء الحكومة المؤقتة فجر يوم الاربعاء 26 اكتوبر – 8 نوفمبر في الساعة الثانية وعشر دقائق كما تثبتها الساعة التي كانت موجودة في قاعة الاجتماعات وهي الآن في متحف الأرميتاج بسان بطرسبورغ حالياً.حاول مندوبو حزب الاشتراكيين الثوريين ومجموعة المنشفيك الخروج احتجاجاً على قلب الحكومة المؤقتة واحتجاز اعضائها لوجود ثلاثة وزراء من كتلتهم فيها، وهنا فاجأهم تروسكي بخطابه الشهير، حركتنا انتصرت (البلاشفة) وانتم الآن تقدمون لنا طلبا بإنكارها، لا تنازل أمام هذا العمل البغيض.. وإذا سمحت لأحد منكم نفسه، نقول له انك شخص منبوذ ومفلس، ودورك قد انتهى، اذهب إلى مكانك الذي تريده الآن في مزبلة التاريخ».كانت مغادرة كرينسكي بتروغراد قبل ذلك بيوم إلى قيادة الجيش في غادشينا بالسيارة ثم طلب قطارا خاصا وفي المساء وصل إلى باسكوف محاولاً استنهاض 6 آلاف مقاتل من القوزاق لاخماد حركة البلاشفة والقضاء عليها، لكنه لم يحصل على التأييد، وفي ليلة 8 نوفمبر وصل إلى لوكا بالسيارة وفي اليوم التالي أخذ القطار إلى الجبهة الجنوبية – الغربية لاستنهاض الجيش الخامس ومنها إلى ستافكا حيث طلب تحريك خمس كتائب إلى بيتروغراد ولكن الجنود رفضوا ذلك بالأغلبية، فلم تفلح محاولات كيرنسكي المتعددة بعد ذلك أمام تمكن البلاشفة في الحكم، فالتجأ إلى فرنسا وأقام فيها مدة طويلة مع مجموعات كبيرة ما أطلق عليهم بالروس البيض الذين غادروا روسيا إلى أوروبا، خصوصاً فرنسا، بعدها هاجر إلى استراليا عام 1940 ثم إلى الولايات المتحدة عام 1946 عمل بالتدريس في جامعة ستانفورد بكاليفورنيا عام 1956، كتب ونشرعدة كتب منها البلشفية 1919، النكبة 1927، الطريق إلى الكارثة 1935، مذكرات كيرنسكي 1966 وكتب أخرى حتى وفاته في نيويورك عام 1970.التسوية التاريخيةمن الصعوبة الجمة ترويض أحداث الماضي المتشتتة، واعادة تشكيلها بما يلائم مذاق الحاضر، كما ان نسيان دروس وقائع أيام انسلخت هو أمر خطير يجب تلافيه، فابقاء النقاش عن المفارقات المحيرة التي رافقت مئوية الثورة الروسية في فبراير/مارس 1917 ومن ثم الانقلاب البلشفي الذي لحقها في أكتوبر/نوفمبر- إن لينين نفسه أطلق على عملية الاستيلاء على الحكم انقلاباً وليس ثورة فرد لزوسكي: عليك إذن ان تحضر إلى المجلس غداً لتعلن أمام الثورة-  من العام نفسه وقد مرت مئويته هذا العام، وما صاحبها من تجاهل غريب في موطن أحداثها ومسقط رأسها، شكل منعطفاً وانسلاخاً عن الماضي يثيران التساؤل والفضول، فهل كانت تلك ردود فعل لتأنيب الضمير لما حدث من مآسٍ وأهوال؟ أم عملية تجميل لشفط مواقع القبح والترهل أم هي تلفيق لخلق صورة أجمل واعادة كتابة التاريخ وتغيير تفاصيل أحداثه وتقليمها لتنسجم مع خطة تسويقه والتعويل على حسنات النسيان في كل الظروف وهو ما حصل، والدليل على ذلك ان الرئيس بوتين القادم في مارس المقبل على شفا مرحلة انتخاب رئاسية جديدة، قرر ان يكون الاحتفاء والاحتفال بطريقته الخاصة فاختار من بين تسعة عشر قيصراً امتد حكمهم من القيصر ميخائيل 1613 حتى نيقولا الثاني 1917 آخر قيصر من سلالة رومانوف التي امتد حكمها ثلاثمئة وأربعة أعوام، فوقع ذلك الاختيار على القيصر الاسكندر الثالث الذي ولد عام 1845م، وحكم عام 1881 ومات عام 1894 عن عمر نهاز 49 عاماً كان قيصراً فيها لمدة 13 سنة، وهي مدة قصيرة بالنسبة إلى عمره.لا أحد يعرف سبب هذا الاختيار بالذات على الرغم من بروز اسماء قياصرة مشهورين كبار منهم بطرس الأول وكاترين الكبيرة اللذان عرفا عالمياً.إزاحة الستارلنقترب أكثر من معرفة تلك الشخصية والأسباب المؤدية إلى اختيارها عالمياً ونبدأ بالاحتفال لإزاحة الستار عن تمثال القيصر الاسكندر الثالث وهو بالمناسبة أول تمثال لقيصر روسي منذ نهاية الحكم القيصري في 2 مارس 1917 الذي تم بتجمع كبير يومي 18 ــــ 19 نوفمبر الماضي، ولا شك فان هذا التمثال البرونزي كان في غاية الضخامة، فصاحبه كان عملاقاً يبلغ طوله حوالي مترين ضخم الجسم وبدينه، قد أقيم بمنتجع ليفاديا في شبه جزيرة القرم القريبة من عاصمة بوتين الشتوية (سوتشي) فالقى الرئيس خطاباً يقارب فيه حكم القيصر (المحافظ) وبين رئاسته التي امتدت 18 سنة في الحكم حتى تاريخهيقول فيه: «إن هذا القيصر كان يشعر دائماً بمسؤولية شخصية عميقة كبرى عن مصير البلد وعمل كل شيء من أجل تطوير السلطة وتعزيزها وتوسيع نفوذها وهيبتها من دون قيود. وكان رجل دولة فذاً وشخصية قوية وشجاعاً وصاحب إرادة لا تلين. وإن عهده شهد بداية التسليح النوعي للجيش الروسي وتنفيذ مشاريع كبرى لبناء السفن البحرية خصوصاً تعزيز أسطول البحر الأسود. وفي ظل عهده بدا الانبعاث القومي».إن هذه المقاربات تدفعك إلى الشعور بأنه يعزوها إلى نفسه، ويحاول كما أعلن إغلاق ردهات الفصل الدامي لأحداث مهمة في تاريخ روسيا. فالشعور الرسمي للدولة بعدم الاحتفال يعبر عن حذر واحتراس يعكسان نزعة جماعية تجعلهم شديدي الشك والارتباك (PARANOIA) وتجبر فرض توازن بين جيل المعمرين الذي لا يزال يعيش لحظات الحنين إلى الماضي (NOSTALGIA) وحقيقة الحقبة السوفيتية. وبين انبعاث نبرات روح المسيحية الارثوذوكسية التي تنظر إلى تقديس آخر القياصرة نيقولا الثاني الذي ضم اسمه إلى قائمة القديسين من قبل الكنيسة عام 2000. كما أضره شعور اتباعه بوضوح حينما عرض فيلم يظهر العلاقة الغرامية بينه وبين راقصة البالية ماتيلدا كيشيسينسكا حينما قامت بتظاهرات أحرقت فيها دور السينما التي عرضته واعتدت على طاقم الممثلين والعاملين وهددت المخرج بالقتل وطالبت بتغريمه مادياً. (انتهى) القيصر وبوتين لنرجع الآن إلى سيرة القيصر الذي وقع عليه اختيار بوتين خلال الكتاب القيم للمؤلف ديفيد وارنز بعنوان «تاريخ عرض القياصرة الروس» فترة بفترة، سجل الملوك في الامبراطورية الروسية. يقول في صفحة 188: «الاسكندر الثالث كان طوله 6 أقدام وثلاث بوصات (حوالي مترين) الوصف البدني له اختصرته مقولة أبيه الذي اسماه بــ (العجل) وكانت تسليته التي تظهر قوته الجسمانية هي لي القضبان الحديدية ولف العملات المعدنية بين أصابعه. كان تعليمه بسيطاً محدوداً أُعد لكي يتبوأ منصباً عسكرياً وكان ثاني أبناء القيصر فلما توفي أخوه الأكبر نيقولا (ولي العرش) عام 1865 أخذ مكانه وتزوج خطيبة أخيه وهي أميرة دنماركية وقد ألف الموسيقي الروسي الشهير شيكوفسكي سيمفونية «فاتحة الاحتفال» فخلطها مع السلام الملكي الدنماركي. شارك في الحرب التركية – الروسية قبل أن يتولى العرش وكان يحضر اجتماعات مجلس الوزراء ويشارك في أمور الإدارة العليا. تولى العرش بعد مقتل أبيه القيصر الكسندر الثاني في 1 مارس 1881 بقنبلة ألقيت على عربته. بعد أن نجا من أربع محاولات سابقة. فأعلن في 29 أبريل بيانا امبراطوريا بأنه سوف يتبنى الحكم المطلق في إدارته للبلاد مما قضى على أمل كل من يتطلع إلى عصر تزدهر فيه الليبرالية، فاستقال رئيس الوزراء. وكان اعتقاد الكسندر أن مقتل أبيه هو نتيجة تساهله بالحكم، فأصدر قوانين صارمة تضادد أي تهاون واعتمدها، للقضاء على كل تطلعات الليبرالية والتوق إلى تقليد ما يحدث في الأقطار الأوروبية المجاورة والانعتاق من قبضة قرون العبودية. ولكن تأثير اغتيال الكسندر الثاني مثل صدمة قطار جعلت من وريثه ان يتبنى قمة الأوتوقراطية في تدمير كل من يقف أمامها فاعتقاد القيصر الجديد ان الانتخابات والبرلمان هما من ظواهر الفساد وان الثقافة الأوروبية فاسدة ولا يؤمن بحرية الصحافة لأنها تثير المشاكل، واصدر تعليمات بعدم استعمال مفردة «مجاعة» في ما يخص الشأن الروسي، علماً بان بعض أجزاء البلاد كانت تعاني منها وطلب من القساوسة في القرى والمدن التعاون مع سلطات الأمن واخبارهم عن أي نشاط معادٍ للدولة وقضى على الحركة الطلابية في المعاهد والجامعات وحدد قبول الطلبة فيها تبعاً لميولهم. وعزز الانكفاء على الشأن الروسي الداخلي مما ساهم بعزلة روسيا دولياً ما عدا بعض التعاون مع فرنسا، خصوصاً في حالات التمويل ولكونها على عداوة تقليدية مع ألمانيا. عموماً فان سياسته الداخلية هي عكس خطوات أبيه الذي أراد توزيع المسؤولية على أجهزة الدولة، فاعادها ليجعل القرارات كلها بيده وأصبح هو المركز. قلص الميزانية العسكرية إلى الربع ولم تكن هناك حروب ما عدا احتكاكه مع الإنكليز في أفغانستان فاستقرت العملة نوعاً ما، وبدأ محاولات مرحلة التصنيع وتطوير وسائل النقل بواسطة السكك الحديدية، وأهم مشاريعه هو ربط شرق البلاد بغربها عن طريق الخطوط الحديدية عبر سيبيريا. ولا بد هنا من التطرق إلى الطرق والأساليب البوليسية التي انتهجها في خلق جهاز أمن رهيب وهو ما اطلق عليه بـ«اوكارانا» حيث اعتمد فيه على أعداد كبيرة من المخبرين والمتعاونين معهم عبر البلاد الواسعة ومراقبة النشاط في الداخل والخارج، فمثلاً كان هناك مركز كبير لها في باريس لمراقبة اللاجئين السياسيين وتعاون مع شبكات تجسسية في الخارج ومراقبة الاتصالات بأنواعها، وقد اشرنا إلى تلك النشاطات في تناولنا موضوع لينين وحكم الاعدام الذي تلقاه شقيقه الأكبر على يد القيصر شخصياً عام 1887م حينما اكتشف مؤامرة لاغتياله. ثمة أمور شخصية أخرى ادت إلى اعجاب الرئيس بوتين بالقيصر الكسندر الثالث، ربما منها القوة البدنية مع الفارق الجسماني بين الاثنين، فالأول (بوتين) كما هو معروف من مزاولي هواية الدفاع عن النفس ويحمل الحزام الأسود فيها ويبرز دائماً في الصحف كاشفاً عن صدره وتقاسيمه وطريقة مشيته، وان لم يكن مثل قرينه الذي كانت قوته الجسدية تفوقه بمراحل وقد ذكرنا لويه للقضبان الحديدية ولفه للعملات المعدنية، ولكن الحادثة الشهيرة التي عرفت عنه وادت بالنتيجة إلى وفاته، هي حادثة ارتطام مقصورة، قطاره الخاص عام 1888م، نتيجة للسرعة، مما إدى إلى خروج القطار عن سكة الحديد، فسقط سقف المقصورة على القيصر وعائلته، مما حدا به إلى رفعه على ظهره إلى ان وصلت فرقة الانقاذ، فحمى نفسه وعائلته من الموت المحقق، وقد ادت تلك الحادثة إلى تدهور صحته وادت إلى إصابة كليته بمرض برايت Briait الذي لم يكن معروفاً آنذاك، فتوفي في منتجع لافاديا بشبه جزيرة القرم مكان إقامة التمثال في 20 أكتوبر 1894م.

مشاركة :