ما يقدمه الطرف الكردي من تنازلات لا يمس صلب القضية الكردية، وهو ما يجعل حكومة بغداد مسكونة بقلق ألا تؤدي تنازلاتها إلى إعادة الأكراد إلى بيت الطاعة.العرب فاروق يوسف [نُشر في 2018/01/09، العدد: 10864، ص(9)] فشل مشروع الانفصال الكردي عن العراق بالرغم من أن الاستفتاء الذي أجري من أجل ذلك الانفصال كان ساحقا بنتائجه التي لا تميل إلى أن تبقى كردستان جزءا من العراق. الغريب أن مسعود البارزاني، وهو داعية الانفصال، قد اعتكف بما يوحي باعترافه بالهزيمة، وهو أمر مشكوك فيه، ذلك لأن الرجل يمتلك من التاريخ النضالي القومي ومن العلاقات الدولية ما يؤهله لإجراء الكثير من المناورات في مواجهة تعنّت حكومة بغداد التي يعرف مدى هشاشتها. من وجهة نظري فإن البارزاني لم يستسلم بشكل نهائي. لقد قرر الرجل أن يعتكف في انتظار ما يمكن أن يفعله خصومه من الأكراد على مستوى حلّ مشكلات الإقليم مع بغداد في ما يتعلق بالجانب الاقتصادي. فما هو لافت أن الأكراد يتفاوضون اليوم مع بغداد اقتصاديا، ولا يتطرقون إلى المسائل السياسية. وهو ما يدفع بغداد إلى أن تتخذ موقف الحيطة والحذر. هناك من يحاول حلبها من غير أن يهبها ما يؤكد هيمنتها على كل أراضي العراق. وهو أمر سيكون من الصعب الوصول إليه في ظل دستور ملتبس. تتمنى حكومة الشيعة في بغداد أن تتخلص من شبح البارزاني. ذلك لأنه كان واحدا من أهم عرابي وجودها، المؤتمنين على أسرارها. في المقابل فإن المفاوضين الأكراد يرغبون هم أيضا في إنهاء أسطورة عائلة البارزاني المشتبكة بمصير الأكراد. غير أن الطرفين يدركان في الوقت نفسه أن للتاريخ سطوته، وأن البارزاني وقبيلته هما الرقم الصعب إذا ما تعلق الأمر بالمسألة الكردية. ما يعرفه الأكراد عن قضيتهم يمكن تلخيصه في كفاح، صار بمثابة وصيّة عائلية. وكما أرى فإن بغداد لا تزال عينها على البارزاني. صحيح أنها فرحة في التفاوض مع خصومه، غير أنها تعرف أنها لن تحصد رضا الشعب الكردي من خلال أولئك الخصوم. في المقابل فإن الذاهبين من الأكراد إلى بغداد بحماسة مَن يثأر لنفسه لا يمكنهم أن يتحركوا بعيدا عن المعادلات التي وضعها الزعيم الكردي المعتكف. بالنسبة للجميع لم يكن قرار الانفصال من خلال الاستفتاء انتحاريا. كان هناك خلاف على التوقيت ليس إلا. هل علينا أن نصدق أن برهم صالح وهو الذي يطمح في أن يكون رئيسا للعراق لم يكن انفصاليا؟ أنا على يقين من أن الرجل الذي تعلم جيدا كيف تُدار العلاقات السياسية في الولايات المتحدة وهو المدعوم منها لن يستعرض مهارته في التفاوض كما لو أن مسعود صار جثة. هناك قيم يحترمها الأكراد في التعامل في ما بينهم. وهي قيم تتعالى على الخلاف السياسي المؤقت. القضية الكردية بالنسبة لجميع الأطراف هي قضية مصير ولا تخضع للخلافات السياسية المؤقتة. قد تسعى بغداد إلى استمالة عدد من الزعماء الأكراد، ممن تعتقد أن خلافاتهم مع البارزاني ستؤدي إلى فتح الطريق أمام نوع جديد من العلاقة بين الإقليم والمركز. علاقة قائمة على أساس العودة إلى مرحلة ما قبل الاستقلال الضمني. وهو مسعى سيصطدم بتماسك الموقف الكردي غير المنظور. ذلك التماسك العابر للخلافات. فمهما تكون الخلافات الكردية – الكردية عميقة فإنها لن تؤدي إلى تهشيم حلم إقامة الدولة الكردية المستقلة. تلك حقيقة يعرفها حكام بغداد لذلك نراهم يماطلون في فتح الملف الاقتصادي كاملا من غير النظر إلى الملف السياسي الذي يحرص الأكراد على الإبقاء عليه مغلقا وغامضا. الطرفان في مفاوضاتهما العسيرة يقدمان خطوة ويؤخران أخرى. ما يقدمه الطرف الكردي من تنازلات لا يمس صلب القضية الكردية، وهو ما يجعل حكومة بغداد مسكونة بقلق ألا تؤدي تنازلاتها إلى شيء يُذكر على مستوى إعادة الأكراد إلى بيت الطاعة. كاتب عراقيفاروق يوسف
مشاركة :