إثر «بريكزيت» وانتخاب دونالد ترامب، ينبعث النمو في أوروبا، وأبواب الفرص مشرعة أمامها. ومنطقة اليورو جمعت النمو إلى الاستقرار مع بلوغ معدلات النمو الاقتصادي 2.3 في المئة، وهذه فاقت النمو الأميركي (2.1 في المئة) والبريطاني (1.7 في المئة)، وتدني معدلات البطالة من 12.2 في المئة إلى 8.7 في المئة، وإحراز فائض تجاري كبير، وتقلص العجز العام إلى 1.1 في المئة والدين العام إلى 87 في المئة من الناتج المحلي. والانتعاش متوازن، وتنعقد ثماره في جنوب أوروبا. ويستعيد القطاع المالي، ودعمه البنك الأوروبي دعماً لا يفتر، حيويته ويواصل هيكلته، تحديداً في إيطاليا وإسبانيا. على المستوى السياسي، وعلى نحو ما سبق أن أشار توكفيل (يتعاظم الخطر الثوري وبلوغه الذروة حين الخروج من الأزمة)، يهز أوروبا بروز الشعبوية التي تنفخ فيها آثار الانكماش الاقتصادي، وتفكك الطبقات الوسطى، والخوف من العولمة والثورة الرقمية، وموجات الهجرة، وانبعاث المخاطر الأمنية. لكن أوروبا صامدة في وجه هذه التحديات، على خلاف المتوقع. فمد الشعبويين في ألمانيا والنمسا والجمهورية التشيخية توقفه وتوازنه هزيمتهم في فرنسا وهولندا. والاتحاد الأوروبي لم يتفكك ولم يشجع على انفضاض الدول الأعضاء عنه، وموقفه متماسك وموحد من «بريكزيت» والميول الانفصالية الكاتالونية. لكنه لم يذلل بعد معضلة التجدد أو انفراط العقد. فقد صارت بائتة المبادئ التي جمعت لحمته حين إنشائه، أي مقاومة الاتحاد السوفياتي، والضمانات الأمنية الأميركية، والمصالحة الفرنسية– الألمانية. والمخاطر الاقتصادية مرتفعة، ووثيقة الصلة بضعف الإنتاجية والاستثمار- في مجال الذكاء الصناعي على وجه التحديد- وبمنافسة الدول النامية والاعتماد التكنولوجي على شركات احتكارية تُعرف بـ «غافام» (عمالقة النت: غوغل وآبل وفايسبوك ومايكروسوفت وأمازون)، والهشاشة أمام فقاعات المضاربة. والخطر الشعبوي لم يستبعد بعد، والدليل عليه قوة حركة خمس نجوم في الحملة الانتخابية الإيطالية المزمعة في آذار (مارس) المقبل، وإجماع دول مجموعة «فيزغراد» (تشيخيا، هنغاريا، بولندا وسلوفاكيا) على»الديموقراطية غير الليبرالية» التي يروج لها فيكتور أوربان. وهزيمة داعش في المشرق تفاقم الخطر الإرهابي في أوروبا، في وقت يشدد النظامان الديموقراطوريان (ديكتاتورية متخفية وراء غطاء الديموقراطية) التركي والروسي، الخناق عليها، ويضغطان عليها. وتمسّ حاجة أوروبا إلى النزول على مطالب المواطنين، وليس إلى المفاوضة على اتفاقيات جديدة. والأولويات أربع: الأولى وثيقة الصلة بحدود الاتحاد وهويته. وتقتضي الانتقال إلى المرحلة التالية من مفاوضات «بريكزيت» (انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، والعودة عن مفاوضات ضم تركيا إلى الاتحاد في وقت تنزلق هذه نحو الاستبداد والإسلاموية، وترجيح كفة شراكة مميزة معها. والأولوية الثانية تقضي بتعزيز منطقة اليورو لتجبه صدمات مقبلة ناجمة عن تعاظم عدد فقاعات المضاربة. والثالثة، تدور على تذليل أزمة المهاجرين التي تزرع الشقاق بين دول الاتحاد. فإيطاليا استقبلت اكثر من 620 ألف مهاجر في أربع سنوات. وتوحيد قانون الهجرة وتقاسم أعبائها وأعباء اللاجئين شرطه السيطرة على الحدود الخارجية الأوروبية. والأولوية الرابعة وثيقة الصلة بالأمن في مواجهة تعاظم مخاطر استراتيجية وانحسار الضمانات الأمنية الأميركية. وتولي الاتحاد شؤون الأمن لا مناص منه في مكافحة الإرهاب وحماية البنى الحيوية والسيطرة على الحدود الخارجية والدفاع السيبرنيطيقي (السيبراني). وتولي شؤون الأمن يقتضي صوغ استراتيجية أمنية أوروبية ورفع مستوى الإنفاق العسكري إلى 2 في المئة، على أقل تقدير، من ناتج كل دولة أوروبية. الوقت ينفد والقيود كثيرة. فالمملكة المتحدة تشغلها عملية «بريكزيت»، وهذه تقودها إلى مرحلة جديدة من الأفول، وإيطاليا تتصدى لبيبي غريللو، زعيم حركة خمس نجوم أو النجوم الخمسة الشعبوية. وإسبانيا تشد أوصال لُحمتها في وجه الحركة الانفصالية الكاتالونية. وشاغل أوروبا الوسطى والشرقية الهوسي هو حماية هويتها من المهاجرين. ومصير الاتحاد الأوروبي في أيدي الثنائي الألماني– الفرنسي. * محلل، عن «لوفيغارو» الفرنسية، 8/1/2018، إعداد منال نحاس.
مشاركة :