الرباط - رغم أن الطب مجال علمي بحت إلا أن بعض العاملين فيه تمرّد على عالمه الصارم، وقرر اجتياح عالم الأدب والإبداع، حيث ترفع القيود عن الكلمات ليصنع عالما موازياً يتقاطع عنده المبضع والقلم ويتزاوج بين الواقع والخيال. طبيبات مغربيات كسرن الحاجز السميك الذي غالبا ما يفرض بين العلمي والأدبي، ليثبتن للعالم بأسره أن الإبداع لا ينحصر في مجال بعينه، وأن التكوين الأكاديمي لا يقتل المواهب الكامنة في الإنسان، تماما مثلما كان الحال عليه بالنسبة للدكتوره المصرية نوال السعداوي. السعداوي أو "الطبيبة المتمرد"، والتي تعد أشهر طبيبة عربية استطاعت كسر الحواجز اللامرئية بين مجالي العلوم والآداب في العصر الأدبي الحديث، امتلكت جرأة غير مسبوقة مكَّنتها من التخلي عن امتهان الطب وهي الجراحة المتخصصة في الأمراض الصدرية، لتخُطَّ مؤلفات وروايات شهيرة بينها "مذكرات طبيبة". طبيبة تتنفس إبداعا وداد أزداد، مدَوِّنة مغربية، وهي أيضا أخصائية في طب الأشعة، قالت للأناضول معقبة على الموضوع "قد يبدو التعارض جليا بين الطب والكتابة الأدبية للوهلة الأولى". واستطردت ضاحكة "حتى والدي نصحني مازحا بدراسة الآداب حتى لا تضيع مَلَكتي الإبداعية، وكأن المجال العلمي والكتابة لا يتوافقان". "قد يكون والدي مُحقا بشكل ما"، تضيف وداد، فـ"ربما أخَّرني الطب عن كتابة النصوص الاحترافية والأعمال الروائية التي أنوي الشروع فيها بمجرد الحصول على بعض الاستقرار، عقب ختام مشواري الجامعي الطويل". وباعتبارها طبيبة أشعة، تشعر وداد بشعور الفخر بالذات الذي يجتاح كل طبيب لدى تشخيص مرض تنقذ بواسطته حياة شخص، والشعور نفسه ممزوجا بنشوة لا يعرفها إلا من اختبر مذاق الكتابة الأدبية، تشعر به عند كتابتها نصا أدبيا قيّما. ففي الحالتين، يمر الدماغ بفترة مخاض عصيبة قبل أن تنتابه حالة من الفرح والراحة. واعتبرت فاطمة الزهراء زعري، وهي خريجة المعهد العالي للمهن التمريضية وتقني الصحة، والباحثة في "البيوتكنولوجيا الطبية" بكلية الطب والصيدلة بالرباط، أنّ "الطبّ ليس حقلا علميا فقط، بل هو مزيج بين الإنسانية والعلم". تابعت زعري وهي أيضا كاتبة بمدونات "الجزيرة"، "وبالتالي، فإن كلّ تجربة في هذا الميدان لابد أن تترك وخزا بداخلنا، يصعب التعبير عنه لحظتها، كأن نفقد مريضا أو ننقذ حياته، وكلاهما مشهد مؤثر للغاية". البدايات ولأن لا أحد باستِطاعته إنكار سِحر الحروف العربية وإغرائها اللافت، فقد كانت القراءة والمطالعة بداية جيدة لكل من الطبيبتين قبل خطِّ نصوصهما الإبداعية الأولى في سن مبكرة. تتذكر الممرضة فاطمة الزهراء الزعري، بكثير من الحنين، أسماء الكتب الأدبية التي كانت تضيء ليلها، قبل أن يتطور الأمر إلى حمل القلم وخط أولى السطور. "كلما اختنقت كتبت"، تقول، "وكلما فرحت كتبت، وكلما انزعجت كتبت، صار الأمر ترياقا.. هكذا كانت بدايتي.. في سن العاشرة". المسار نفسه سلكته الطبيبة وداد، راسمة ابتسامة هادئة على وجهها قبل أن تتابع حديثها، قائلة "بالنسبة لي، فإن أول محاولة أدبية حقيقية لم تأت إلا في سن الثامنة، حيث كتبتُ حينها قصة خيالية مطوَّلة". ولئن بدأت وداد التي يتابعها نحو 20 ألف متابع عبر صفحتها الرسمية على موقع فيسبوك كتاباتها بلغة "موليير" أي الفرنسية، فإنها سرعان ما نفضت الغبار عن كتاباتها العربية، حين اكتشفت تجاوب القراء مع النصوص العربية. نعم هما لغتان للكتابة، لكن وداد تؤكّد أن العربية ستظل دائما الأحب والأقرب إلى قلبها والأكثر تعبيرا عمَّا يخالج كيانها. الطب أم الكتابة؟ رغم عشقهما للكتابة والإبداع، إلا أن ذلك لم يمنعهما من الاستمرار والتشبث بأكثر المهن إنسانية على الإطلاق، معتبرتين أنهما وجهان لعملة واحدة، حيث ستستمر الممرضة والطبيبة في الانتصار للمرضى والمتألمِّين ما دامت عافيتهما تُسعِفُهم، كما تقولان. الممرضة البالغة من العمر 24 عاما قالت إن في داخلها عشقا للمجالين، ففي التمريض حب وعطاء، ويد ينتظرها الآخر للتخفيف من آلامه، فيما تظلّ الكتابة شفاء يبعدها عن صخب وضجيج الواقع. عشق يجعلها قادرة -مع ذلك- على تحديد أهدافها بوضوح في الحياة، مستبعدة احتراف الكتابة، وتقول "أحافظ عليها كفَنٍّ سامٍ، فمهنتي وكتاباتي رسالتان وجب تأديتهما بطريقة صائبة". وترى الطبيبة الشابة والتي أنهت مشوارها الأكاديمي الطويل قبل أسابيع، أن "التوفيق بين المهنة والإبداع أمر صعب، ليبقى الطب ضرورة حياتية مثله مثل الكتابة". "إنه ليس مجرد مهنة بل هو حصاد حياة بأكملها"، تتابع، "وبالتالي، لا يمكنني التخلي عنه كما لو كان مجرٌد نزوة أو هواية.. بل إنني تخليت طويلا عن الكتابة الاحترافية من أجل عيون الطب". تعبير دون قيود! فاطمة الزهراء لم تنف وجود غياب حرية تعبير مطلقة، مؤكدة أن "القيود موجودة دون شك، ذلك أن الكاتب عندما يغدو رهين قرائه، فإنه يتوجب عليه الحذر في إطلاق العنان للتعبير، حتى لا يخدش أحدا بدون قصد". الكاتبة الشابة شدّدت على أنها لا تؤمن بالبطاقة السحرية التي تسمح بمناقشة أي موضوع بطريقة سلسلة، فهذه القيود في حد ذاتها تجعل من الكتابة سلاحا ورمز قوة بهدف سام. ورغم أن وداد تلقت العديد من العروض للإشراف على عمود يومي في صحف ورقية وإلكترونية محلية، إلا أنها رفضت خوض التجربة. وعن ذلك تقول "فعل الكتابة لديَّ عفوي وليس تحت الطلب، قد ينهال علي الإلهام كالمطر لأيام وقد ينقطع لفترة، عندما أُجبِر دماغي على الكتابة يتمرد ويصاب بمتلازمة الصفحة البيضاء". ولفتت أن "عددا من الصحف المحلية لم تستطع -للأسف- مواكبة العصر والتخلص من قيود الكتابة التقليدية، ولذلك حاولت قولبة نصوصي وفرض الكتابة في نمط جد ممل، لأتشبث بطريقتي ذات الشكل المميز والمرح الذي اعتاده جمهوري دون ابتذال". وقالت إن أسبابا جعلتها تكتفي بالنشر عبر موقع فيسبوك الذي يتيح لها هامش حرية أكبر، ويسمح لها باختيار خطها التحريري.
مشاركة :