ثائر هلال الرسام الذي غمرنا برخاء عاطفته بقلم: فاروق يوسف

  • 1/14/2018
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

الرسام السوري فنان نادر من نوعه من جهة قدرته على تحويل الكلمات إلى أشياء، يتّبع خيال يده الذي يهبه أشياء هي في حقيقتها صناعة عالم لم يعشه سوى كائن واحد هو الرسام. العرب فاروق يوسف [نُشر في 2018/01/14، العدد: 10869، ص(9)]ثائر هلال من الماء وإليه ما من أحد من الرسامين العرب يحرث سطوح لوحاته مثلما يفعل ثائر هلال. إنه كما يُخيّل إليّ يعيد النظر مئات المرات في تلك السطوح قبل أن يصل إلى النتيجة التي تقنعه جماليا. الرسم بالنسبة إليه فعل كدح يتنقل من خلاله بين التنقيب والتحليق. يمكنه أن لا يتذكر اليوم الذي كانت فيه سطوح لوحاته ملساء تنعم برخاء تصويري باذخ. لقد تغير العالم من حوله ومعه تغيرت طريقته في النظر إلى ذلك العالم. لم يعد الوصف كفيلا بالإجابة على الأسئلة الكبرى. فما حدث عميقا في الروح هو شيء أشبه بالجرح الذي يسعى هلال إلى استلهام صرخته. يمكنك أن ترى في تكويناته التجريدية حطاما لمشاهد، آثار عربات وحقولا اضطربت عناصر بنائها. لا يحرم هلال مشاهد لوحاته من متعة جمالية غير أنه في الوقت نفسه لا يخفي رغبته في أن يشرك ذلك المشاهد بألمه الذي يحضر ممتزجا بشعور عميق بالأسى لما يحدث للطبيعة من انتهاك هو الصورة المعلنة للخراب الذي يضرب الروح بعصفه. أن يقال “رسام” في وصف المهنة التي يمارسها هلال فذلك قول يخون الحقيقة. مَن يزر محترفه الكبير وسط إمارة الشارقة سيجد نفسه في ورشة تختلط فيها أدوات مهن عديدة، وليس الرسم إلا واحدة من تلك المهن وقد تكون أقلها ظهورا. غير أن خيال الرسام هو الذي ينظم العلاقة بين تلك الأشياء بطريقة تدفع إلى الشعور بالصفاء المريح. لوحاته تدعو إلى الاستفهام غير أنها لا تؤلم. حيرتها لا تخدش واضطرابها لا يخلخل. وهو ما يكشف أن الرسام مارس قدرا من الانضباط سمح له بوقاية مشاهدي أعماله من عدوى ألمه الشخصي الذي يظل ماثلا بالنسبة إلى القلة التي تعرف أن الجمال الفني لا يقع إلا بعد عناء. فن ثائر هلال صعب لكنه في الدرجة الأولى من سلمه فن ممتع. ولد هلال عام 1967 في ريف دمشق. عام 1991 تخرج من قسم الفنون البصرية في كلية الفنون الجميلة بدمشق. بعدها انتقل إلى الشارقة ليعمل في الصحافة مصمّما ومن ثم انتقل للتدريس في جامعة الشارقة، كلية الفنون الجميلة. نال جائزة بينالي الشارقة لعام 1997. وحصل على الجائزة الذهبية لبينالي الرسم المعاصر في طهران لاحقا.لوحاته تتميز بحجومها الكبيرة ويوحي مظهرها الخارجي بثقل وزنها. غير أن مهارة الفنان في التعامل مع المواد المختلفة الجديدة ساعدته على أن يجمع ما بين الخفة التي هي واحدة من أهم ركائز طريقته في النظر إلى الأشياء من خلال الرسم وبين الإيحاء بالثقل المسحور بشفافية الماء عام 2000 أقام معرضه الشخصي الأول في متحف الشارقة للفنون. ومن يومها وهو يحرص على إقامة معرض سنوي لأعماله وبالأخص حين أصبح بعد عام 2010 رساما معتمدا من قبل قاعة أيام السورية التي أقامت له معارض في دمشق وبيروت ولندن والقاهرة. قبلها كان الفنان قد عرض أعماله في غرين آرت بدبي وفي المركز الثقافي بأبوظبي. شارك هلال في معارض ولقاءات دولية في كوريا الجنوبية وأبوظبي ودبي والإسكندرية وطهران وبنغلاديش. تتميّز لوحاته بحجومها الكبيرة كما يوحي مظهرها الخارجي بثقل وزنها غير أن مهارة الفنان في التعامل مع المواد المختلفة الجديدة ساعدته على أن يجمع ما بين الخفة التي هي واحدة من أهم ركائز طريقته في النظر إلى الأشياء من خلال الرسم وبين الإيحاء بالثقل الذي تتمترس وراءه تضاريس المناطق التي يمرّ بها نهر خياله. ذلك النهر الذي لم تقف حيويته وراء الكثير من التحولات الأسلوبية التي مرّ بها فنه. ففي مرحلته الأولى التي يمكن أن أسميها بالمرحلة المائية كان هناك الكثير من المشاهد التي توحي بجريان النهر، إما مباشرة مشهدا تجريديا مستعارا من الطبيعة وإما من خلال سيلان الأصباغ على سطح اللوحة كما لو أن ذلك السطح تشف عنه مياه النهر. الرسم فعل كدح يتنقل من خلاله بين التنقيب والتحليق لم يتعب هلال نفسه في التلفّت بين التشخيص والتجريد. لقد اختار الطريق الصعبة. أن يكون تجريديا بعمق وبضراوة مع حرصه الشديد على تعميق صلته بالطبيعة لا من خلال وصفها بل عبر ما يلتقطه من هباتها الاستثنائية، ذلك النظام الخفي الذي يظهر مثل إيقاع. في مرحلة من مراحله المهمّة كان الفنان شغوفا بالتكرار. مفردة واحدة تكفي لصناعة لوحة غامضة. لم يكرر تلك المفردة في نسق بلاغة الفن البصري “اوب آرت” بل عمد إلى أن يرسم مفردته بعشرات الهيئات لتبدو جديدة. كان ولع هلال بالضوء قد ساعده على اللعب بمفرداته القليلة بطريقة ملهمة. وسط العتمة كان إلهام الضوء يحدث انفراجا مدهشا بتنويعاته اللونية. أزرق، أحمر، أبيض، كان الضوء يعيد تعريف الأشياء كما لو أنها لم تظهر من قبل. لم يكن من اليسير رسم مفردة واحدة، لا أساس لها في الواقع بمئات الأشكال. وهو ما فعله الفنان بصبر ومتعة. ما من شيء يحدث بالصدفة. بالنسبة لهلال فإن الرسم كالموسيقى يستند إلى الكثير من العمليات الرياضية. هناك جهد جبّار يبذله الرسام من أجل أن يصل إلى إيقاع بصري هو أشبه بخفقات أجنحة سرب من الطيور. لا شيء يمكن أن يُمسك من تلك اللغة. ما من أحد يكلم أحدا آخر. شيء هو أشبه بالهذيان. رسوم هلال في تلك المرحلة هي عبارة عن هذيان بصري يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية. كنت كلما رأيت واحدة من لوحاته أفكر بعذابه وبالجنون الذي يلهمه كل هذه الصيغ المتاحة للهذيان. هلال هو فنان نادر من نوعه من جهة قدرته على تحويل الكلمات إلى أشياء، فبدلا من أن يصرخ سعيدا أو تعيسا يتّبع خيال يده الذي يهبه أشياء هي في حقيقتها صناعة عالم لم يعشه سوى كائن واحد هو الرسام. رسوم ثائر هلال تقودنا مباشرة إلى تضاريس الروح الرخاء مجسدا مظهريا تبدو تحولات الرسام الأسلوبية كما لو أنها تتم تحت السيطرة. غير أن ذلك لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة. ما فعله هلال أنه استفاد من كل المدارس الفنية التي كرّست الإيقاع هدفا لها. غير أنه لم يقع في الفخ الذي يقيّده في إطار مدرسة بعينها. كانت لوحاته أشبه بمدونة موسيقية عصية. تعلّم من الزخرفة العربية الشيء الكثير، إلهامها البصري على الأقل. بهره سلوك الرسامين الحركيين وبالأخص جاكسون بولوك غير أنه كان منضبطا. في تفاعله مع المواد لم يتماه هلال مع بيير مانزوي بل تجاوزه حين صنع عالما يذكّر بطفولته. كل شيء فعله هذا الرسام يعيدنا إلى حياته الشخصية التي هي مزيج من شغف بالطبيعة وتطلع ثقافي رفيع. أعتقد أن ثائر هلال هو أكثر الرسامين السوريين رخاء في نظرته إلى وظيفة الرسم. غير أنه الرخاء الذي يشف عن ألم عظيم. وهنا بالضبط تكمن أهمية فن هلال. حتى في تعليقه على ما تشهده بلاده من فوضى لم يقع الفنان في فخ رد الفعل. كانت لديه رؤيته الخاصة وهي رؤية تميّزت بصفائها وقدرتها على التمييز بين القاتل والقتيل. سيبدو نوعا من المفارقة القول إن هلال يقاوم عن طريق الفن. ولكنها مقاومة عن طريق الرخاء. هي دعوة لحياة من نوع مختلف. هذا فنان يضع الرسم في مواجهة الحياة. لوحاته لا تكف عن الثناء على حياة مجاورة كان حريّا بنا أن نعيشها. ثائر هلال هو واحد من سحرة عصرنا. رسومه تقودنا مباشرة إلى تضاريس الروح.

مشاركة :