ثقافة المجتمعات العربية تسقط من قواميسها ونواميسها المعنى الحقيقي لكلمة وطن فيشب الشباب غير مدركين لمعنى فقدان هذا الوطن فيكبرون وتكبر معهم كل معاني الخيانة والسلب دون أن يعلموا أنهم هم المسلبون وليسوا السالبين.العرب شيماء رحومة [نُشر في 2018/01/16، العدد: 10871، ص(21)] لم أكن أتوقع للحظة أن يقابل خروجي إلى فناء المنزل بكل هذا التهليل والتصفير والتصفيق، انحنيت بخفة كأنني اعتلي أكبر مسارح العالم وأنهيت لتوي أداء عرض خاص. وأرسلت قبلاتي الحارة تتطاير في هواء شتوي عاصف اختلط بريح غاز قوي ملأ الأرجاء ولسان حالي يردد "تبا كم أنا متواضعة". وسرعان ما استعدت الوعي دامعة العينين وهذه المرة ليس من تأثير شهرة وهمية لم تدم إلا بضع ثوان، بل من مخلفات مسيل الدموع الذي وزعته أيادي الأمن بين المتجمهرين ممن نصبوا أنفسهم ثائرين باسم بقية الشعب. وكان ذلك اليوم بداية لسلسلة تواصلت على امتداد ثلاث ليال حوّل خلالها جمع من المراهقين الحي الذي أقطنه وعددا لا بأس به من الأحياء التونسية إلى ساحات للنهب والتخريب أو كما أطلق عليه من قبل الأمنيين جرائم منظمة، هدفها الأساسي السرقة لا التنديد بقرارات حكومية رفعت وفق خطة مالية في الأسعار. وعلى الرغم من الظروف الاجتماعية الصعبة للبعض إلا أن الكل توجس خيفة من هذه التجمعات الليلية، وسخر البعض الآخر من هذا النضال الذي يتستر من ضوء النهار بظلمة حالكة متبادلين على موقع فيسبوك “أخفضوا أصواتكم المناضلون نائمون”. غايتي مما ذكرته لا تكمن في الحديث عن تفاصيل ما عاشته بلادي الأسبوع الماضي، بل في ما كشفته هذه التحركات من خلل مجتمعي لا علاقة له بالظروف الاقتصادية والاجتماعية ولا السياسية التي نعيشها اليوم، وإنما يرتبط بفهم مبهم لكلمة “وطن”. أذكر جيدا أن إحدى المواد المدرجة في البرامج التعليمية منذ المراحل الأساسية وصولا إلى السنوات الأولى من التعليم الثانوي تركز على معاني الوطن وتفصل القول فيه وتلقن الناشئة كل الفصول الدستورية المتعلقة بهذه المفردة، غير أنني انتبهت إلى أن عدد الموقوفين قارب الـ54 بالمئة بين سن الـ17 والـ31 عاما، أي أعمار لا تزال حديثة العهد بهذه الدروس. ولو فرضنا أن أغلب هؤلاء الموقوفين تسربوا من صفوف الدراسة مبكرا فهذا لا يغفر لهم خيانتهم لمؤتمن، نعم مؤتمن أليس كل جزء من مكونات هذه الرقعة الصغيرة التي تدعى وطن أمانة علينا المحافظة عليها؟ المشكلة الحقيقية أن عددا كبيرا من الشباب اليوم يعاملون أوطانهم بعدائية ورفض كبيرين يتجليان في الاستماتة للحصول على فرصة هجرة بكل السبل الشرعية وغير الشرعية، والنتيجة إما الموت في أعماق المجهول وإما الزواج من أجنبيات جلهن عجائز. وبدل البحث في جذور المشكلة ومعالجتها تعمد بعض الأسر إلى دعم أبنائها ماديا ومعنويا من أجل مغامرة غير مضمونة العواقب، والأدهى أن بعض العائلات تخوض رحلة الموت سويا، لن أتوسع أكثر في هذه المسألة هي فقط من النقاط الهامة التي تؤكد هذه القطيعة بين الناشئة والأوطان، لكنها ليست الوحيدة، وهذا ما ظهر جليا من خلال السرقة والنهب والتخريب وترويع الخلق. يراودني تساؤل ملح؛ ماذا يعني وطن لمثل هؤلاء؟ وبماذا يحسون وهم يحرقون ويكسرون ويسرقون؟ أذكر أنني حين شاركت منذ سنوات في مسيرة شعرت بقشعريرة في كامل جسدي وبرغبة قوية في التضحية فداء لهذا الوطن، لكنني لم ولن أستوعب أن يتكسب البعض من وراء حرق الوطن، فقد سمعت أن أحد الأحياء لم يشارك في هذه التظاهرات الليلية فقلت جميل أن يكون أبناؤه على درجة كبيرة من الوعي، فعلمت أنهم خططوا لكي لا يكون حيهم ساحة للخراب، وفي المقابل عمدوا إلى جمع كميات كبيرة من العجلات المطاطية وبيعها للأحياء الأخرى! وجهة نظر لا غبار عليها، مصائب قوم عند قوم فوائد، لكن أي فائدة وأي ثمن يعوض هذه الرقعة الصغيرة التي تجمعنا تحت لوائها كالأم الحنون التي تحضن صغارها خوفا عليهم من النوائب. لكن للأسف ثقافة المجتمعات العربية تسقط من قواميسها ونواميسها المعنى الحقيقي لكلمة وطن فيشب الشباب غير مدركين لمعنى فقدان هذا الوطن فيكبرون وتكبر معهم كل معاني الخيانة والسلب دون أن يعلموا أنهم هم المسلبون وليسوا السالبين. وتبقى كلمات الشاعر الفلسطيني محمود درويش تلخص في ما بين سطورها معنى احتلال وطن واغتصاب حق أبنائه في العيش الكريم: ما هو الوطن؟ ليس سؤالا تجيب عنه وتمضي. إنه حياتك وقضيتك معا. كاتبة من تونسشيماء رحومة
مشاركة :