البيان الختامي للمجلس المركزي الفلسطيني جاء دون مستوى المرحلة وتحدياتها، وليس سبب ذلك عباس وحده، وإنما هناك سبب موضوعي يتعلق بخواء أو ضعف الحوامل النضالية الفلسطينية في التاريخ المعاصر.العرب عدلي صادق [نُشر في 2018/01/17، العدد: 10872، ص(8)] اختتم المجلس المركزي الفلسطيني في رام الله الاثنين، دورته الثامنة والعشرين، وأصدر بيانه الختامي، الذي جاء كتلخيص لجميع ردود الأفعال العربية، ومعظم الردود الدولية، حيال قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل. غير أن ما ورد في البيـان الختامي، حول علاقة السلطة الفلسطينية بإسرائيل، والتنسيق الأمني معها، كان كله مطروقا وقدم المجلس توصياته بشأنه في دورته السابقة في ربيع العام 2015. وكان المستجد، هو العلاقة مع الإدارة الأميركية. هذه المرة، أكد البيان ما أكده في الدورة السابقة، وهو وجوب وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، ولم يُنفذ هذا المطلب، بحكم أن التنسيق الأمني هو جوهر وشرط العلاقة مع الجانب الفلسطيني من وجهة النظر الإسرائيلية. وغـابت عن البيـان أي إشارة إلى قطع الاتصالات الفلسطينية مع إدارة ترامب، ليصبح الأمر ورادا ضمنا من خلال التأكيد أن الولايات المتحدة لم تعد راعية لعملية السلام، وأن البديل الفلسطيني المرتجى هو الرعاية الأممية تحت مظلة الأمم المتحدة. استطرد البيان إنشائيا في الحديث عن بسط سيادة الدولة الفلسطينية على أراضيها، ودعا الأمم المتحدة إلى مساندة الشعب الفلسطيني في تحقيق هذه الغاية. لكن هذا الرجاء، خلا من الإشارة إلى ملامح الاستراتيجية الفلسطينية في حال وقوع المتوقع، وهو عـدم التمكين للدولة الفلسطينية من بسط سيادتها. وغاب للأسف، التشخيص الواقعي والعلمي للثغرات والنواقص في بُنية النظام الفلسطيني وجدارته في مواجهة التحديات. وكذا غاب الحديث عن تدابير المعالجة لهذه الثغرات والنواقص. كذلك الأمر بالنسبة للمصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام. فلم تصدر عن المجلس المركزي، أي إشارة إلى خطوات ومبادرات محددة زمنيا، لإنفاذ اتفاق المصالحة التفصيلي المبرم في القاهرة في العام 2011 والاتفاق الملحق على الشروع في التنفيذ المبرم في القاهرة أيضا في أكتوبر 2017. فقد تُركت الأمور مرة أخرى لطرفي الخصومة، وهما كفيلان بضمان الإحباط، ما جعل توصية المجلس المركزي، محض فقرة لازمة في الصياغة، لا تتعدى كونها وصفا أدبيا لأمنية وطموح. وكرد فعل على الأصوات التي دعت إلى مبادلة إسرائيل إنكارا بإنكار، أي سحب الاعتراف بها ما لم تعترف بدولة فلسطين، دعـا المجلس اللجنـة التنفيذية لمنظمة التحرير إلى “تعليق” الاعتراف إلى حين اعتراف تل أبيب بالدولة الفلسطينية، ليصبح “التعليق” وهو صورة مخففة بالقياس إلى سحب الاعتراف، هو الحد الأقصى المطلوب الذي يعتقد الفلسطينيون، على الرغم من ذلك، أن اللجنة التنفيذية التي يهيمن عليها رئيس السلطة، لن تنفذه، بل إن التـوصية بـ“التعليق” هي التي ستظـل مُعلّقة. بعد الدعوة في إهاب قرار، إلى وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال في الضفة، جرى الحديث عن خطوات إجرائية في الضفة، لن يُتاح للسلطة القيام بها في حال إنهاء التنسيق الأمني فعليا، بمعنى أن مثل هذا التنسيق هو شرط استمرار وجود السلطة، وبالتالي لن تكون هناك سلطة، في حال قطع العلاقة الأمنية مع إسرائيل. لكن المؤشرات الواردة في الخطاب الافتتاحي الطويل الذي ألقاه الرئيس الفلسطيني أمام المجلس، وقبل ذلك موقف التمسك برام الله كمكان لانعقاد المجلس، أكدت أن حل السلطة ومغادرة القيادة الفلسطينية مركزها في رام الله؛ ليسا واردين في ذهن الرجل الذي يقرر. فقد تعمد القول، ردا على الذين ألحوا في طلب الانعقاد في الخارج “إننا هنا قاعدون، ولن نغادر”. وبالطبع يسهل تغليف هذه الإشارة بمفردات التمسك بالأرض، التي هي للفلسطينيين منذ أيام الكنعانيين. علما بأن انعقاد دورات برلمـان منظمة التحـرير، على الأراضي العربية طوال عقود، لم ينتقص من ثقافة المعرفة بملكية الشعب الفلسطيني لأرضه ولا من عزيمة الكفاح الوطني من أجلها. وللأسف، كان سبب رفض الرئيس الفلسطيني انعقاد دورة المجلس المركزي في الخارج، هو تحاشي حضور القيادات الوازنة سواء في الحركة الوطنية الفلسطينية أو في حركتي حماس والجهاد الإسلامي. فمن شأن الانعقاد في الخارج، وتحديدا في أحد البلدين اللذين أظهرا استعدادا سريعا لاستضافة الانعقاد، وهما مصر ولبنان، أن يوفر مجالا لنقاش جدي للسياسات والتوجهات، وأن يذهب بالمجلس إلى وجهة أخرى، ستكون تعجيزية بالنسبة للسلطة، وهذا ما تعمد عباس أن يتلافاه، وأن يعلل التلافي بالتمسك بالأرض والدار، علما بأن غزة متاحة للانعقاد، وهي جزء من الأرض والدار. ولئن كان المجلس المركزي، قد حصل على شيء من البحبوحة عند صياغة البيان الختامي، فإن المفردات المستخدمة أريد لها ألا تنم عن إلزام تحت طائلة المحاسبة. فقد منح محمود عباس هامشا لإنجاح الانعقاد، وقدم عرضا في خطابه الطويل، استخدم فيه المؤثرات الصوتية في التأكيد على المؤكد، لكنه فعل ذلك في مسرح هيمنته وسلطته، مدركا أن الوجهة الحقيقية، بعدئذ، قابلة للترويض، وأن التنسيق الأمني الذي كان يُفاخر به علنا وكان يصفه بالمقدس، يمكن أن يصبح أقوى ولكن بطريقة مسكوت عنها. فقد أوصلت المجاهرة رسالتها في أوقات مواتية له، ولم تعد بعدها زيادة لمستزيد! البيان الختامي للمجلس المركزي الفلسطيني، نفض يده من إشكالية ترهل السلطة والتفرد فيها وتغييب مؤسساتها الدستورية. أشار لماما إلى ما سماه “تفعيل” مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، ودعا إلى انعقاد المجلس الوطني بكامل أعضائه وبحضور حركتي حماس والجهاد، لتجديد عضويات المجلس بالانتخاب، في سقف زمني أقصاه نهاية السنة الحالية، وهذه دعوة، بشكلها وفحواها وسقفها الزمني، تخضع حكما لقرار عباس. أما وضعية السلطة وما عليها من مآخذ، في غياب مؤسساتها، فلم يتطرق إليها البيان، ما عدا إشارة فضفاضة إلى رفع الحصار عن غزة وتعزيز صمود أهلها. لقد جاء البيان الختامي كما هو متوقع، دون مستوى المرحلة وتحدياتها، وليس سبب ذلك هو عباس وحده، وإنما هناك سبب موضوعي، يتعلق بخواء أو ضعف الحوامل النضالية الفلسطينية في التاريخ المعاصر، التي تمثلها الفصائل، ما يجعل الخطاب السياسي الذي يركز على ضرورة التسوية المتوازنة، هو الخطاب المقبول، ويضطر الفلسطينيين حكما إلى ضبط لغتهم السياسية وجعلها أقرب إلى حجم قدراتهم وإلى أطوال سيوفهم. كاتب وسياسي فلسطينيعدلي صادق
مشاركة :