لم تعد الحياة كما كانت قبل 25 يناير 2011 (يوم تنحى الرئيس حسني مبارك وسلّم السلطة للمجلس العسكري) على كل المستويات، وأهمها أرواحنا. كنا على أتم الاستعداد للموت، لم نتراجع أمامه، لكن الموت كان أكثر دهاءً منا، لم يكن الموت يريد أجسادنا، بل أرواحنا، وهو ما تم له. كانت أكبر خدعة نفذها الموت، وكنا أكبر مغفلين في التاريخ.*** انطلقت الدعوة من صفحة خالد سعيد، في الربع الأخير من 2010، للاحتشاد في الميدان والاعتصام للضغط على النظام، كي يقيل وزير الداخلية في ذلك الوقت (حبيب العادلي)، ومحاسبة قيادات أخرى على خلفية قتل خالد سعيد من قبل الداخلية، في حادثة لم تزل تداعياتها هي الأهم في التاريخ المصري الحديث. تطوف في رأسي أسئلة عديدة، هل كان من الضرورة قتل خالد؟ هل علم أمناء الشرطة المسؤولون عن قتله، أنهم بفعلتهم هذه سيفجرون أول ثورة شعبية مصرية تستهدف إسقاط نظام حاكم؟ هل كانوا يعلمون أنهم بفعلتهم هذه سيتغير نظام الدولة المصرية؟ التاريخ في منتهى العبثية، قتل أرشيدوق فجّر الحرب العالمية الأولى، وقتل شاب في العشرين سيفجر ثورة.*** لكننا لم نكن نريد سوى الحرية. روى الكثيرون تاريخ الثورة، أحداثها، خياناتها، لحظات الانكسار والتخلي، لكن لحظات الهزيمة لم يواجهها أحد من قبل. فالهزيمة، وإن مرت عليها 7 سنوات، لا يتفق أحد على ميعادها، ويتقاتل الجميع على أسبابها. متى حدثت؟ هل تقبل حكم المجلس العسكري والتفاوض معه؟ هل كانت معركة الدستور في مارس 2011؟ الانتخابات التشريعية أم الرئاسية؟ يذهب القليل من المتطرفين أشباهي إلى أنها في 11 فبراير 2011. لحظة انتصار الثورة للغالبية، هي لحظة الهزيمة لي ولمن هم مثلي. لكن الاتفاق كان على اعتبار الثالث من يوليو 2013 هو اللحظة، وأن مذبحة رابعة في 14 أغسطس من نفس العام، هي إعلان ميلاد المُسيخ الذي يحكمنا بالحديد والنار والغباء. لكننا في النهاية مهزومون، ومنزوعو الإرادة والقدرة على الحركة تماماً، فقد سلبتنا الهزيمة نواة أرواحنا، خدعنا الموت مرتين، بعدما اعتقد أننا تلاعبنا به، وسخرنا منه، يجلس الآن متفرجاً على أشلاء أجسادنا، تجرها أقدامنا المعطوبة. لم نشفَ من الهزيمة، ولن نشفى منها أبداً.*** ربك قادر على كل شيء. لن يرى أحد ما حدث بأرواحنا خلال الأعوام السبع الماضية، لن يرى الدود الزاحف على أرواحنا، لن يرى الظلام الخانق لعبراتنا، لن يرى ما كنا عليه، وما أصبحناه.أقوال جاهزة شاركغردمصطفى مالك عن السنوات السبع بعد ثورة يناير: لن يرى أحد ما حدث بأرواحنا خلال الأعوام السبع الماضية، لن يرى الدود الزاحف على أرواحنا، لن يرى الظلام الخانق لعبراتنا، لن يرى ما كنا عليه، وما أصبحناه شاركغردلم يكن الموت يريد أجسادنا، بل أرواحنا، وهو ما تم له... كانت أكبر خدعة نفذها الموت، وكنا أكبر مغفلين في التاريخ #25يناير لا أتذكرني بشكل شخصي، فكيف سيرى غيري ما أصبحت أنا وعشرات الألاف عليه؟ لم أعد أتذكر ما كنت عليه، ردود أفعالي، أحلامي، طموحي لمستقبل لم يعد موجوداً منه غير ظل مشوه على جدار متداعٍ. فالأعوام السبع لم تهزمنا فقط سياسياً، بل سرقت منا كل شيء، أيقوناتي الشخصية، أحبابي بالموت المادي أو الروحي.*** "أعطيت ما استبقيت شيئاً". لم يستبقِ أغلبنا شيئاً، لم نترك أي حجر يسند أرواحنا، لم نبخل بالبذل، لم نقتر في العطاء، اندفعنا بحماس عشريناتنا، نحو الأمل، نحو النصر، لكننا كنا نركض إلى سراب، أصررنا على كونه حقيقة، لكنه أخرج لنا لسانه ضاحكاً، ونحن في قلب صحراء لا نرى طريق العودة، ولا نستطيع التعايش. أصبحنا مجموعات من المنبذوين، المعتزلين، المشدودين إلى حلم دفن رضيعاً.*** ولدنا في الثامن والعشرين، وسط النار والدخان، من بين جثث شهداء حملناهم على أكتافنا، وانطلقنا نحو ميدان، كنا نظنه مهد أحلامنا، نصرخ بالحرية، ونتدفأ بغد سيأتى لنا بالمن والسلوى. أتذكر الوجوه فجر الثالث من فبراير، ونحن نحتضن أغراباً صاروا إخوة لنا في الحلم، بعد ستة عشر اشتباكاً دموياً مع بلطجية الحزب الوطني الحاكم. وقتها، لملمنا أشلاء من سقطوا في المعارك، صلينا عليهم، بالصليب والمصحف والشمس المشرقة من ميادين وسط المدينة. حررنا الميدان، وأنفسنا، حررنا الحلم من أضغاثه، واستقبلنا المجاميع التي أتت للمؤازرة والتهنئة، والتي انفصلت من بينهم وجوه استنجدنا بأصحابها طوال 16 ساعة، ولم يأتوا إلا بعد الانتصار، مشكلين لجان تفتيش للوافدين إلى الميدان، حاملين مصاحفهم، مرددين هتافات جماعتهم "الله أكبر ولله الحمد"، محاولين الاستيلاء على انتصار لم يشاركوا فيه. لكننا تغاضينا عنهم، لم يكن وقت اقتسام غنائم، فالحرب لم تنتهِ، كنا نحتاج إلى مناصرين، تعامينا عن أهدافهم، ولم ندرك أن وجودهم هو ناقوس الهزيمة، الذي طرق على أفئدتنا بضراوة، حتى قتلوا هم في رابعة، وكُسرنا نحن حتى اللحظة.*** "أنظر حولك". أحاول التعرف في الوجوه على ملامح كنت أعرفها، وما عدت قادراً على إيجادها، القسوة أو الانكسار هو كل ما أراه في خبايا العيون، الهزيمة أو الانكار هو العنوان، من أنتم، من أنا، من نحن؟ لم أعد أعرف، وأنا من كانوا يستمعون بإنصات إلى ما أراه في الغد، حتى عيناي لم تعدا تستطيع استبصار الغد، لم تعدا تعترفان بأي غد، حتى وإن جاء النصر يوماً ما، فثمن الهزيمة لن يعوض، والسنوات السبع لا يمكن تصفيرها، والعودة إلى المربع صفر. هل تعلم أنه لا يوجد أي جمع حصيلته صفر إلا إن كان بالسالب، وأن الطرح فقط هو ما ينتج ذلك الصفر، الذي لن نعود لخانته مرة أخرى.*** “أزمة الثورة أنها بلا قائد". لا نستطيع الهرب من الكوابيس، لا نستطيع الهرب من أكثرها سوءاً، أي مذبحة رابعة، التي ستظل تطاردنا طوال أعمارنا، حتى وإن لم نشارك فيها مادياً أو معنوياً، لكننا رأيناها على الشاشات، ولم نجرؤ على الاعتراض، فقد جمدنا تماماً، لم نتخيل أن يحدث ما حدث، لم نتوقع أن يجرؤ أحد على مثل ذلك الغدر، حاولنا إنكار ما شاهدناه، غرقنا في كل مذهب ملبد للحس، كحولاً أو مخدرات، دروشة وتصوفاً، عبادة متواصلة، أو كفراً بكل شيء شاركغرد أستمع إلى تلك الجملة بغثيان شديد، لم أعد أهتم بتصحيحها، لم أعد أصرخ فيهم أن الأزمة لم تكن في عدم وجود قائد، بل في إعلان ألف قائد لثورة، لم يصح لها في أي وقت وجود قائد، رددت دائماً أن القائد كانت المطالب التي علقت بعمارة هارديز في ميدان التحرير. لكن كما تعلمنا في الحكمة الكليشيه "الانتصار له ألف أب، والهزيمة يتيمة" أتذكر من تفاوضوا مع العسكر، ومن بعده الإخوان، ومن بعدهم السيسي، كلهم أعتقدوا أنهم القادة، وكلهم تنصلوا من قميص القيادة الذي سرقوه من الميدان. الميدان الذي أصر كلُ من حكم من بعد انتصاره على تشويهه، فبنى نصباً تذكارياً، ومن بعده خازوقاً ضخماً، لعلمهم أن أغلبنا لم يعد يشعر بأي انتماء. خازوق يناسب عقد النقص التي تناسب من يجلس على الكرسي الآن، والذي يصر دائماً على بناء الأكبر والأوسع والأضخم، ولمَ لا؟ وهو صاحب أكبر مجزرة في تاريخنا الحديث، تلك المجزرة التي تفوقت حتى على مذبحة محمد علي في القلعة، في الغدر والدموية والعدد.*** لا نستطيع الهرب من الكوابيس، لا نستطيع الهرب من أكثرها سوءاً، أي مذبحة رابعة، التي ستظل تطاردنا طوال أعمارنا، حتى وإن لم نشارك فيها مادياً أو معنوياً، لكننا رأيناها على الشاشات، ولم نجرؤ على الاعتراض، فقد جمدنا تماماً، لم نتخيل أن يحدث ما حدث، لم نتوقع أن يجرؤ أحد على مثل ذلك الغدر، حاولنا إنكار ما شاهدناه، غرقنا في كل مذهب ملبد للحس، كحولاً أو مخدرات، دروشة وتصوفاً، عبادة متواصلة، أو كفراً بكل شيء. لم نعِ حتى اللحظة فداحة الحدث، نهرب منه بكل الطرق، لكننا نعرف أنه سيظل يطاردنا، حتى نعترف به، حتى نقبل حدوثه، حتى نعتذر لكل شهدائه، حتى ولو كانوا أعداء لنا، عن هروبنا منها. في اليوم التالي لرابعة، أدركت أنها كربلاء الثورة، وأن السيسي هو يزيد، أخبرت من حولي بذلك، لكنهم سخروا مني إلا قلة، انكسروا مثلي، ولم تقم لهم قائمة حتى اللحظة.*** أرى النصر كشمس تشرق على كفيف، فقد نظره من حلكة ليل الهزيمة، يشعر بدفئها، لكنه لن يرى نورها. لم أشك في أن النصر قادم لا محالة، حتى في أحلك لحظات الانكسار، أؤمن تماماً به، لكن كيف سنداوي جراح الهزيمة الغائرة في أرواحنا؟ كيف سنقبل ما حدث؟ كيف ستمضي حياتنا؟ لا أعرف، ولا أملك أجابة، الغد مشرق، لكننا لن نرى نوره، ولا نملك إلا الأمل في أن يراه أطفالنا، إن استمرت الحياة حتى يشرق علينا. هذه التدوينة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي رصيف22. مصطفى مالك كاتب مقال وروائي مصري، وأحد الفاعلين في الثورة في المصرية، مختص ومدرب على تقنية المصادر المفتوحة والأمان السيبري. وواحد من الجيل الأول للمدونين العرب. كلمات مفتاحية مصر التعليقات
مشاركة :