مؤسسة موسم الثقافية في الدورة الأولى العاصمة تونس، ثم بيروت، تعود اليوم في دورتها الثالثة لتقدِّم الدار البيضاء، بكل ما تحتويه من جماليات وتناقضات، في هذا الحوار يتحدث مدير مؤسسة موسم محمد إقوبعا لـ”العرب” عن مهرجان المدن الذي يستمر شهرا كاملا بصورته الحالية.العرب عبدالله مكسور [نُشر في 2018/01/30، العدد: 10885، ص(15)]الوجه الثقافي والفلكلوري للدار البيضاء يزور أوروبا تمثِّل الأماكن والمدن تحديدا صورة حقيقية للشعوب التي شيّدتها أو سكنت بها عبر عصور التاريخ، إنها حالة من الاحتضان التام لكل الجماليات والتناقضات التي تختزلها الأحياء المنتشرة في بقعة جغرافية ارتبط سكانها بنسيجِ انعكَس بشكل أو بآخر على النتاج الثقافي والمعرفي بكل ما يحتويه من فنون بصرية أو تشكيلية أوسينمائية ومسرحية وأدبية، إلى جانب الاقتصاد الخفي الذي يعتمد على الاقتصاد اليومي للشارع، هكذا ولدت فكرة موسم المدن في مؤسسة موسم الثقافية ببروكسل، فخلال مرحلة التفكير المعمّق لإيجاد صيغة معاصرة لتقديم الثقافة العربية بشكل مختلف في أوروبا، حيث تشكّل الأحكام المسبقة أو النظرة النمطية الجاهزة منطلقا للمبرمج الأوروبي في تعامله مع الثقافة العربية، ولد مهرجان “موسم المدن” الذي تنظمه مؤسسة موسم الثقافية التي تتخذ من مركز بوزار الثقافي الشهير في العاصمة البلجيكية مقرا لها. صورة المدن يقول مدير مؤسسة موسم الثقافية الفنان المغربي البلجيكي محمد إقوبعا على سبيل الدعابة إن الاشتغال على حقوق المرأة أو الأقليات للفنان العربي في أوروبا تضمن له الظهور على مختلف المنابر، في حين أن الفنان العربي لا يختلف في شيء عن الفنان العالمي من حيث الأولويات أو الاشتغال الإنساني، وهنا يؤكد إقوبعا، أن دعوة مدينة إلى العاصمة البلجيكية هي طريقة أخرى لتقديم الثقافة العربية في القارة الأوروبية، لذلك بدأت القصة مع تونس العاصمة وتلتها بيروت وهذا العام تستعد مؤسسة موسم لتقديم الدار البيضاء. في جوابه على سؤال لماذا المدن؟ يقول ضيفنا “لأنها قلب المجتمعات المعاصرة، فالمدن العربية لا تختلف عن المدن العالمية مع اختلاف الظروف حيث يعطي الأوروبي مساحة أكبر للفنون المعاصرة والثقافة، وهي غالبا غير موجودة في معظم الدول العربية وهذا مهم لإظهار المدينة العربية كحاضرة ديناميكية معاصرة”. العرب كما يقول محمد إقوبعا شيَّدوا المدن وأسسوا لفكرة التعدد الثقافي، نتحدث هنا عن بغداد والقاهرة والقيروان والدار البيضاء وغيرها في المنطقة العربية، بينما تبرز في الثقافة الأوروبية منطقة الأندلس بمدنها التي شيدها وأقامها المسلمون عربا وأمازيغ، لتظل مرآة للوجود العربي الذي حدث في أوروبا بصفته عاملا حضاريا. عن اختيار الدار البيضاء يقول ضيفنا، إنها ليست مدينة سياحية بالمعنى العالمي، كازابلانكا هي مدينة شيَّدها المغاربة للمغاربة، نشأت عن طريق الهجرة القروية والتجارية ثم أصبحت في مرحلة لاحقة عاصمة اقتصادية للمغاربة، فهذه المدينة بما تحتويه هي مدينة التناقضات، التحرش الجنسي فيها كبير جدا وكذلك تجد المرأة فيها في أقصى درجات التحرر من حيث العمل والإنجاز. إنها، كما يقول إقوبعا، مدينة تقوم على الحياة وفي نفس الوقت فيها التنوع المرغوب فكل أو أغلب جماليات المغرب من الممكن اختصارها بها، إلى جانب الإطار الاجتماعي والسياسي والإبداعي فهي أستديوهات مفتوحة للسينما كأغلب مدن المغرب، وقاعات العروض وأول أستديوهات التسجيل الصوتي في المنطقة، إلى جانب أنها المدينة التي أنتجت ثقافة المعارضة أو حركات الاحتجاج الفني في السبعينات من القرن الماضي. يتحدث هنا ضيفنا عن حركة “ناس الغيوان” التي بنى عليها الجيل الحالي في الدار البيضاء فنون الراب والهيب هوب ومعظم الفنون المعاصرة، كل هذا دفع بنا إلى التفكير في أن تكون الدار البيضاء ضيفة العاصمة البلجيكية ومؤسسة موسم لهذا العام.محمد إقوبعا: هذه الفعاليات صرخة إنسانية تقول نحن هنا ننتمي إلى الإنسانية في الحديث عن بدايات التخطيط لهذا المهرجان يقول إقوبعا إنه عندما فكَّرت إدارة مؤسسة موسم بالدار البيضاء، قام ضيفنا بزيارة الدار البيضاء أكثر من مرة بغية اكتشافها، أو تقديم قراءة جديدة لها. وآخر الزيارات كانت برفقة صحافيين أوروبيين، هذا حدث أيضا قبل اختيار بيروت كضيفة في العام الماضي، حيث اعتمدت المؤسسة على دراسات ميدانية استمرت لعامين متتاليين لتقييم الاشتغال الفني البصري أو التشكيلي والفنون الأخرى، هذه الدراسات والاكتشافات المتأنية دفعت مثلا إلى اعتماد وجود معرضين فنيين اثنين عن الدار البيضاء، الأول عن قصة الدار البيضاء كمدينة والثاني عن فنانين شباب أنتجوا أعمالا عن المدينة، إلى جانب فعاليات متنوعة عن الرقص التعبيري بالإضافة إلى إنتاج عرض مسرحي اسمه “مدينتي قتلتني” للفنانة أسما حوري حول الدار البيضاء. برنامج ثقافي يؤكد ضيفنا أن البرنامج الثقافي الذي تم اعتماده حرص على إبراز التعدد الثقافي والمعرفي بالمدينة دون أن يقوم على العامل الديني أو العرقي، إنه مبني في جوهره على إظهار صورة المدينة كما هي بكل جمالياتها وتناقضاتها، ووضعها أمام الثقافة الأوروبية، لذلك تم في البرنامج المرافق للاحتفال بالدار البيضاء في بروكسل، التركيز على حالة التنوع في المدينة باعتبارها تستوعب كل الهويات لأنها من دون هوية واضحة على حد تعبير ضيفنا، هكذا تم بناء رؤية واضحة للفعاليات تضم الموسيقى العربية إلى جانب الروك، الشعر والأدب، أرشيف وتاريخ المدينة المعماري، مظاهر الاقتصاد غير الرسمي للباعة المتجولين، وتأثير الاحتلال الفرنسي على الفن المعماري في المدينة إلى جانب الهجرة القروية. نذكر من الفعاليات المرتقبة مثلا كيف یستكشف الراقص رضوان مرزیكا في عروضه العلاقة بین الرقص وفن العمارة، ویرسم بورتریها للإنسان كتمرین توازن بین العقل والجسد والروح. في مسار العرض بحيث یسبر أغوار الإیقاع المتعدد، الإیقاع الأساس في الموسیقى الأفریقیة، من خلال بحثه عن المقابل الاجتماعي لهذا التناغم الخاص، فیعید هذا الأداء الخاص التذكیر بضرورة وغنى الاختلافات في أي سیرورة إبداعیة، من خلال تعمیق الطريقة في الإصغاء للآخرین وللذات الواحدة على حد سواء، بينما تلقي المهندسة المعماریة الشابة هند ودغیري نظرة نافذة على طریقة تحرك الناس وتعبیرهم في الدار البيضاء مع انبهارها بأماكن تظهر فیها صور بین الفعل والتأویل، حيث تولي ودغیري عنایة خاصة لمختلف التخصصات الفنیة التي من شأنها أن تغني ممارستها، إلى جانب المعرض الافتتاحي “كازا، التحميل جاري”، لمجموعة من الفنانين زينب أندريس عراقي، عائشة البلوي، مصطفى مفتاح، هشام العسري، آنا رايموندو، علوي إسماعيلي، فاطمة مزموز. وحول صعود اليمين في دول كثيرة حول العالم، والتأثير الذي تركه أو سيتركه هذا الصعود على تطورات الخطاب الثقافي للآخر في الغرب، يقول ضيفنا محمد إقوبعا إن هذه الفعاليات هي بمثابة صرخة إنسانية يُقال من خلالها، نحن هنا ونحن ننتمي إلى الإنسانية بلغة الثورة الفرنسية، فالذين ينادون بالهوية أو العرق الصافي أو الحر هم أُناس تأخروا عن قطار الحضارة البشرية، وهو تراجع في التحضر، اليمين يدعو إلى شيء لا يمكن تحقيقه إلا في الخيال أو بمنطق القوة.
مشاركة :