محمد آيت حنّا: كتاباتي قليل من الحقائق وكثير من الكذب

  • 2/3/2018
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

من قرأ شيئاً من كتب الروائية الهنغارية أغوتا كريستوف مثل «الأمية» و»الدفتر الكبير» فهو يعرف قطعاً محمد آيت حنّا، هذا المغربي أستاذ الفلسفة والمترجم والكاتب أيضاً، صدر له مؤخراً كتاب «مكتباتهم» وهو نص حر كما يصفه يتحدث عن الكتب والمكتبات، كان لنا حوله الحوار التالي: تحولت في كتابك الأخير «مكتباتهم» إلى الكتابة متحولاً مؤقتاً عن الترجمة التي نجحت وعرفت من خلالها. لماذا؟ لو كان لي أن أسمّيه تحوّلاً، لقلتُ: إنّه تحوّلٌ دائمٌ وليس تحوّلاً مؤقّتاً. بالعادة أمشي على ساقين، كلّ ساقٍ في اتّجاه، ساقٌ تترجم وساقٌ تؤلّف، وفقط بمشيهما في اتّجاهين متعاكسين أستطيع التقدّم. ليس الأمر إذن تحوّلاً إذا ما نظرنا إليه في شموليّته، لأنّ لحظات التنقّل بين الفعاليّتين معاً لا تكادُ تنتهي. لكن حين أنظر إلى الفعل من الدّاخل، في لحظاته المتقطّعة، أكاد أجزم أنّه تحوّلٌ نهائيّ وقطعي في كلّ لحظة. في كلّ لحظة انخرط فيها في الكتابة لأكون على بيّنة ممّا إذا كنت سأستطيع الانتقال إلى فعل آخر، إلى لحظة أخرى، وما إذا كانت البرهة التي أعيشها ستنفسح لتسمح لي بالانتقال إلى غيرها، أم أنّها ستنغلق عليّ، فلا يعود بمقدوري أن أنخرط في ترجمة أو تأليف آخر. توتّري الزمني هذا هو السبب الأوّل في أنّ أغلب تأليفاتي وترجماتي لم يُقيّض لها أن تكتمل. موضوع «المكتبة» موضوع شائق وشائك، هل تعتقد أنك قدمته كما كان ينتظر من كاتب وقارئ مثلك ذي إطلاع كبير؟ لا أراك إلا مخطئاً في تقدير أنّي قارئ ذو اطّلاع كبير - أمّا كوني كاتباً؟!-. على العموم اشتغلتُ كما تفضّلتَ على موضوعٍ يبدو شيّقاً وشائكاً، لكنّه في الآن نفسه موضوعٌ صار كثير التداول مؤخّراً، لدرجة أنّنا يمكن أن ندعي أنّ الموجة اليوم هي الكتب التي تتحدّث عن المكتبة والكتابة والقراءة. لذا فإنّ الرّهان كان، على خلافِ ما تقدّم به سؤالك، رهاناً على ما لا ينتظره القارئ، وليس ما ينتظره. كان الرّهانُ تقديمَ شيٍء مختلفٍ، تأمّلاً في المكتبة على نحو مغاير، بل على أنحاء مغايرة. لقد قدّمت كتابي وفق تصوّر بنيتُه في ذهني، ومنذ نُشر لاقى نوعاً من التعاطف من طرف القراء، وأقصد بالتّعاطف هنا نوعاً من الحميمية والألفة، بحيث أنّ معظم القراء يشعرون أنّ الأفكار أفكارهم وأنّهم لطالما تأمّلوا فعل القراءة كما تصّورُه فصول الكتاب، وتصّوروا المكتبة في صور مماثلة لتلك التي يعرضُها؛ الفرق فقط في أنّي نقلت تلك الأفكار إلى مستوى تعبيري معيّن، أخرجتها من القوّة إلى الفعل. لهذا جواباً على سؤالك، أعتقد أنّي قدّمت كتاباً كما ينتظره قارئٌ يريد كتاباً أليفاً وغريباً في آن. *عنوان الكتاب وعناوينه الداخلية توحي إلى القارئ بأنه سيجد معلومات مثلاً أو جهداً بحثياً أو توثيقياً ما، ولكنك خدعته، لماذا؟ ليس في الأمر أيّ خدعةٍ لأنّ لا تعاقد مسبق بيننا على ما ينبغي أن يتضمّنه الكتاب، ويكفي أن يقرأ القارئ مفتتح الكتاب «الذي هو عرضٌ لمكتبتي الشخصية ليُدرك أنّه أمام عمل تخييلي اعترفت بنفسي أنّ قوامه القليل من الحقائق والكثير من الخيال والكذب». وما قد يبدو غير مبرّر بالنّسبة إلى قارئ أو ناقد هو مبرّر بالنّسبة إليّ؛ فمادة الكتاب هي ما كتبه الآخرون وبالتّالي هي بشكل أو بآخر «مكتباتهم»، ومن جهة أخرى تتبع الفصولُ فهرسة موحّدة تستعيد في كلّ مرّة مكتبة عَلمٍ من الأعلام، بالطّبع لا يتعلّق الأمر بمكتبته الفعليّة، لأنّي لم أطلّع على مكتباتهم ولا أعرف أصلاً ما إذا كانوا قد امتلكوا مكتبات، ولا بأيّ معنى يمكن أن يمتلكوها «هل يحمل أفلاطون نفس التصّور عن المكتبة الذي يحمله بورخيس؟»، قلت: تتبع الفصول الداخلية هذه السياسة في العنونة، لأنّ كلّ فصل منها مدينٌ بفكرةٍ أو «حتّى نصف فكرة» لصاحب المكتبة، تلك الفكرة التي كانت منطلق التّأمّل المكتبي الذي تضمّنه الفصل، من مكتبته إذن «أخذتُ» وإليها ينبغي أن يُنسب الفضل. كان من الممكن أن أعنون الكتاب أيضاً بـ»المكتبة» أو حتّى «مكتبتي»، لكنّها في نهاية المطاف عناوين متساوية بالنّسبة إليّ، «مكتبتي» ليست سوى مكتبات الآخرين، وهي نفسها «المكتبة» بإطلاق. قلت ذات مرة:»أترجم لأن الآخرين يكتبون أفضل مني» هل ينطبق هذا أيضاً على «مكتباتهم»؟ بمعنى ما نعم. أكتب انطلاقاً من آثار الآخرين، أعتبرهم موادَ للكتابة والتفكير والتأمّل. الكتابة والترجمة والقراءة بالنّسبة إليّ فعالية واحدةٌ تتجلّى في ثلاثة أحوالٍ. وفي كلّ حالٍ من تلك الأحوال أستعيد النّص الذي أتعامل بدرجة مختلفة، فإذا ما كنت أسعى في الترجمة جهد إمكاني إلى الحفاظ على أثر النّص الأصل ونقل أفكار الكاتب بأمانة -مع أنّي لا أخفي أنّي بترجمته أسعى إلى أن أُزاحم اسمه- فإنّي في الكتابة أمارس أعلى درجات اللّعب في المقروء، بحيث لا أقيم أيّ وزنٍ لما قرأتُه، لا حرمةَ عندي لأيّ نصّ. وأعتقد أنّ على الكاتب أن يتجنّب فقط السرقة، وعدا ذلك هو حرّ في التعامل مع مقروئه كما يشاء. وذاك بالضّبط ما فعلتُه في «مكتباتهم» حيث تحوّل أولئك الأعلام وما أنتجوه من آثار إلى أدواتٍ للتفكير والتأمّل واللّعب والاختلاق. لماذا اخترت تلك الأسماء دون غيرها؟ ولماذا إذن تجاهلت غيرها ممن اشتهروا بسعة المكتبات والإطلاع مثل الخليفة الأموي الأندلسي الحكم المستنصر بالله أو الكاتب الأرجنتيني البرتو مانغويل وغيرهم؟ لم أختَر ولم أتجاهل، ولم يخضع انتخاب الأسماء إلى أيّ منطق، هذا إن فرضنا أصلاً أنّه انتخابٌ؛ كانت فكرة المكتبة والعلَم الذي تسمّى باسمه يتشكّلان في الآن نفسه، بالتالي لكي أضمّن الكتابَ مكتبة مانغويل أو المستنصر بالله كان ينبغي أن تتشكّل في ذهني فكرةٌ ويتشكّل معها في آنٍ اسم أحدهما، وهذا ما لم يحدث. بعض الأسماء بدأتُ فعلاً في كتابة مكتباتهم (إيزابيل ألندي مثلاً)، لكنّي لم أستطع الذهاب بعيداً في الفكرة، فتوقّفت دون أدنى حسرة. ما يمكن أن أتحسّر عليه، بالمقابل، هو بعض الأعلام الذين أتتني أفكار مكتباتهم بعد نشر الكتاب (فيكتور هوجو مثلاً)، وكان من الممكن أن أفكّر في جزء ثانٍ للكتاب، أو حتّى طبعة مزيدة، لكنّ عدد المكتبات لا نهائيّ بحيث أنّ كلّ زيادة ستظلّ غير كافية، وأظنّ أنّ القرار الأمثل إغلاق المكتبة والتفكير في شيء آخر. ركزت على الغرب دون غيره من الحضارات والشعوب في الشرق مثلا وغيره. لماذا؟ من مكتبات الشرق ثمّة «ابن سينا والتوحيدي والجاحظ والمأمون وأبو العبر البغدادي وابن بطوطة وكيليطو وبنعبد العالي»، وهو عدد محترم قياساً إلى حجم الكتاب، زد على ذلك الأسماء الأخرى التي تظهر في مكتبات الآخرين، أو حتّى تدخل في نسيجها بدون أن تفصح عن نفسها؛ وفي نهاية المطاف ليس هذا الأمر ذا شأنٍ، لأنّ تلك الأسماء ليست سوى تعلة للتفكير في أمور أخرى. تجاهلت بعض الأعمال المميزة التي تناولت المكتبة والقراءة رغم تناولك لمثيلاتها مثل رواية الروائي الصربي زوران جيفكوفيتش «المكتبة» أو فيلم «القارئ» الذي كان من بطولة الممثلة كيت وينسيلت، وغيرها. لماذا؟ ليس تجاهلاً، فأنا لم أقرأ معظم تلك الأعمال. وكما تفضّلتَ في بداية هذا الحوار ليست المكتبات سوى خدعة. لو أنّ موضوع الكتاب كان بحثاً في المكتبة والقراءة لكنتُ في موضع مساءلةٍ: لما اخترت هذا وتجاهلت ذاك. لكنّ مواضيع الكتاب هي ما وراء المكتبة والقراءة والكتابة، هي أفكار تتساوى فيها المراجع من حيث هي «مجرد إمكان»، وبالتّالي قد لا ينطوي كتابُ مانغويل عن القراءة بأكمله على أيّ «إمكان» لقيام فكرة من أفكار «المكتبة»، بينما قد يشكّل شطرٌ من بيت للبيد بن ربيعة حجر أساسٍ تقوم عليه مكتبة بأكملها (أقول هذا وأنا أتحسّر الآن على عدم تفكيري في مكتبة لبيد بن ربيعة من قبل). ومن يدري ربّما يحضر فيلم «القارئ» في نسيج النّص حضوراً أقوى من الأفلام التي صرّحتُ بها، مثلما أنّ الكتب التي لم أذكرها لا تقلّ حضوراً عن تلك التي ذكرتُها. أعظم ما حققت أنني صرت أحد قرائي نعمة «الكسل» حرمتني الإنجازات هل تخليت عن المنهج والمنطق الصارم كأستاذ للفلسفة في الكتاب واعتمدت على التأمل والاسترسال وحدهما؟ ما الذي أضافه لك هذا برأيك؟ مكتباتهم نصّ حرّ –بمعنى ما- ومنذ البداية لا يربط أيّ تعاقد مع القارئ، وهذا فعلاً منحني نوعاً من الحرية، لكن في الآن نفسه كان ينطوي على خطر التيه. في كتابة الفلسفية أحرص ما أمكن على القواعد الذي أُلزم بها طلاّبي، لكن دون أن أُقيّد حريّة التعبير أو التفكير؛ أمّا قراءتي للفلسفة فهي نفسها قراءة فوضوية لا تلتزم بأيّ منطق أو منهج. لقد أضاف ليَ الكتاب إمكان أن أرى الأفكار التأمّلية المسترسلة مكتوبة ومجسّدةً في وحدةٍ. لا أنكر أنّي وأنا أقرؤها أحسّها أكثر غرابة وعنىً ممّا كانت عليه في ذهني. صارت بيني وبين تأمّلي مسافةٌ تسمح لي بأن أتأمّله، وهذا أعظم ما فزت به من الكتاب: لقد صرتُ من قرّائه. حدثنا عن أعمالك ومشروعاتك القادمة. ما هي؟ هناك أعمال انقضت أو شبه منقضية «كتاب لأغوتا كريستوف وآخر عن تاريخ الفلسفة»، ورواية تنتظر عند النّاشر، روايةٌ مؤلّفةٌ لا مترجمة، هي أوّل تجاربي الروائية، وأظنّ أنّ القارئ سيُلفي فيها امتداداً لكلّ ما تحدّثنا عنه أثناء هذا الحوار. عدا ذلك مشروعات وتأمّلات كتابية كثيرة في الذهن يمكن أن تتحقّق لولا فضيلة الكسل، وأنعم بها من فضيلة!.

مشاركة :