كتبت كثيراً عن القراءة، وكيف يمكن أن تتحول إلى دليل في الحياة؛ ذلك أن معارف القارئ ومعلوماته وخبراته وكل ما يشكل «موسوعته» تشكل العنصر الرئيس في تكوين المعنى وبنائه؛ لذلك فإن أفضل الطرق التي يكوّن بها القارئ المعنى، تقوم على مبادراته واقتراحاته التي يتقدم بها، وبالتالي فلكي يبني المعنى ويكونه، يلزم أن يربط القارئ بين ما يقرؤه، وبين ما يعرفه بالفعل. إذن فمن المهم أن نميز بين هذه الطريقة في تكوين المعنى، وبين طرق أخرى يتحول فيها القارئ إلى وعاء يملأ من طبقة (نقاد وعلماء ووعاظ ومذكرين) تحتكر المعنى، أو أن يتحول إلى خادم يبحث عن معنى المؤلف أو النص، وحركات الإصلاح النظرية التي ظهرت في أوائل السبعينات «الاتجاهات المتعلقة بالقارئ» كانت محاولة للتخلص من سلطة طبقة أو مؤلف أو نص، من خلال تقديم مفاهيم تعرّف القارئ أن المعنى لا يكتشف كما تكتشف المعادن النفيسة أو الطاقة، بل يكوّن ويبنى كما تبنى الأهرامات. تعني عبارة «المؤلفون يكوّنون المعنى» من ضمن ما تعنيه أن القراء لا يكوّنون المعنى، وتعني عبارة «النص يعني شيئاً ما» في إحدى وجهات النظر أن النص يمكن أن يكون له معنى واحد فقط، وما على القارئ إلا أن يبحث عنه، وهو ما يشير إلى تصور يتحرك خلف هذه العبارة، وهو أن الحقيقة واحدة وأنها قابلة لأن تعرف وتحدد، وعلى رغم صحة العبارتين إلى حد ما، فإنهما مجرد حالين خاصتين لحقيقة أشمل، مفادها أن القراء يكوّنون المعنى (عن هذه الأفكار، ينظر: «المقالة الممتازة: هل يكوّن القراء معنى» - مجلة نوافذ - العدد 14/ 2000). *** وإذا كان القراء مختلفين، فسيكوّنون معنى على نحو مختلف، وقد أُخذ على السماح بتعدد المعنى من جهة القراء، أنه يحدث فوضى، ونحن هنا نتحمس لهذا التعدد ونعتز ونحتفل، ذلك أننا يجب أن نفهم كيف أن القراء مثلما هم الناس، مختلفون ومبتكرون بشكل لافت وبديع، ولا بد لنا من أن نبعد الفكرة التي تقول إن القراء لا يكوّنون المعنى. لماذا نتحمس لهذا التعدد في تكوين المعنى؟ لأن طرق تفكير الناس مختلفة، ولأن المعنى ليس شيئاً يمكن أن يمنحه أحد لأحد، ولأن تكوين معنى ما، لا ينجم عن مجرد تلقيه من آخرين، ولأن المعنى ليس ثابتاً ولا نهائياً، وأخيراً لأن المعرفة عملية تغيير مستمرة، فما يعترف به الناس اليوم على أنه حقيقة، يعتبر موقتاً، وبالتالي تكون معرفتهم معرضة للتغير في ضوء ما يستجد من أفكار وخبرات ومعلومات. توضح هذه الأفكار ما أنحاز إليه من حيث هو خيار يظهر احترام اختلاف القراء، وعندما يتم الاعتراف بأحقية القارئ في أن يكوّن معناه، حينئذ تصبح القراءة شيئاً أكير من مجرد علاقة بين إنسان ونص، وتتحول من حيث هي تكوين للمعنى المختلف والمتعدد من قراء مختلفين ومتعددين، فضائل يومية وطرقاً يعتادون عليها، ليس فقط في القراءة، بل في الحياة. *** تكوين المعاني المختلفة يعني تعددية تفتح لنا طرقاً متعددة للرؤية والشعور والتفكير، وحين نعرف قيمة هذه التعددية تتكامل وجهات النظر المختلفة، ويدعم بعضها بعضاً، كل قارئ يكوّن معنى من المعاني، جانب من الجوانب، خبرة منفردة لها الحق في أن تتبلور، وأن تضيف معنى من المعاني المحتملة. وبهذا التعدد في تكوين المعنى نتدرب على الحياة، وكيف أن كل واحد منا يكوّن وجهاً من وجوه الحقيقة، وجانباً آخر من جوانب الواقع، كل منا يضيف لوناً آخر لطيف الحياة، وكما قال «يونغ» تتطلب الحقيقة، إن كانت موجودة أصلاً، كونشرتو من الأصوات المتعددة. *** يتوقف تعدد المعنى الذي يكوّنه القراء على موسوعاتهم، من هنا يلزم أن تلعب معارفهم ومعلوماتهم وأفكارهم واتجاهاتهم دوراً مهماً في تكوين المعنى، ولكي نفهم الطبيعة الأساسية لموسوعات القراء، ونألف دورها في بناء المعنى، من المفيد أن نعرف الكيفية التي ترتبط بها موسوعتهم في بناء المعنى وتكوينه. إن مفهوم موسوعة القارئ، عبارة عمّا يعرفه بالفعل، وما يعرفه القارئ قد يعني مشاهداته الحية، والأحداث والوقائع التي مر بها، فالحياة اليومية مكان مميز لإغناء خبرته، وهي تقدم له عدداً من ظروف التفاعل والتبادل المغني، كما تعني موسوعة القارئ ما قرأه أو تعلمه من مفاهيم مجردة، وبالتالي فما يعرفه القارئ له بعدان أساسيان على الأقل هما: الواقع والكتب. *** ربما أوضح الشبه بين القارئ من حيث هو موسوعة يضم خبرات وأفكاراً وقيماً واتجاهات ومعلومات، والموسوعة من حيث هي كتاب يجمع معلومات في كل ميادين المعرفة، نقول: ربما أوضح الشبه المزيج المعقد والضخم الذي تتكون منه موسوعة القارئ؛ لذلك فالقارئ يحتاج إلى مفهوم يساعد على تنظيم موسوعته وفق ما يحتاج إليه منها، ويوفر نوعاً من تصنيف الخبرات والمعلومات التي تمده بالدليل على المعنى الذي سيكوّنه. وإذا كانت الحروف الأبجدية هي (المفهوم) الذي ينظم الموسوعة، فإن من شأنها أن تساعدنا في أن نختار من الموسوعة المعلومة التي نريدها، وإذا ما اتضح لنا أن هذه المعلومة غير ذات جدوى، عندئذ نختار حرفاً آخر، وهكذا دواليك، وإذا لم تبرهن المعلومة على أي حرف أو العكس، ففي هذه الحال نكون غير قادرين على الحصول على المعلومة؛ لأننا لم نعرف الكيفية التي تشغل بها الحروف الأبجدية الموسوعة
مشاركة :