أكرم عطا الله يكتب: في ذكرى هيكل

  • 2/14/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

نتنكر للثقافة والسياسة والصحافة اذا ما مرت ذكرى الأستاذ الكبير دون أن نقف احتراماً لتلك الظاهرة التي فاض حبرها في مطابع وصحف المنطقة العربية ليصل الى أقاصي الكون،  ظاهرة فريدة من نوعها في عالم الصحافة بل وتعد أحد أبرز معالمها في القرن العشرين وامتدت الى بدايات ما بعده. محمد حسنين هيكل الذي توفي قبل عامين في السابع عشر من هذا الشهر أحد أساطيل القوة الناعمة العربية التي فقدت قوتها الخشنة والناعمة ، تمكن من تسجيل هذا الحضور الدولي بامتياز كرجل وقف على ناصية التاريخ ليس كشاهداً على أحداثه بل واحداً من محركاته سواء بشكل مباشر كما في عصر الزعيم التاريخي جمال عبد الناصر أو حتى بدايات عصر السادات قبل أن يفترقا مع حرب أكتوبر ، أو بشكل غير مباشر من جملة ما كتبه على امتداد عقود طويلة كانت مرشداً وموجهاً لكثير من القادة والزعماء العرب وصناع القرار وآخرهم الأمين العام لحزب الله الذي كتب هيكل عن لقاءه لمدة ست ساعات كيف كان الأول يستمع له باحترام وهو يتحدث في السياسة. قبل عامين أصبنا نحن الصحفيين الذين تعلموا مما تساقط من كتابات هيكل الكثيرة والعميقة في السياسة والصحافة باليتم بعد أن توقف هذا القلم قبل أن يتوقف القلب عن الخفقان فقد تعلمنا منه كيف نكتب وكيف نفكر،  كيف نكتب في السياسة وكيف نفكر في الصحافة وهو الذي علمنا قيمة الكاتب في منطقة ليس للكاتب فيها أية قيمة أمام مخبر الأمن الصغير والأمي. تعلمنا منه كيف يجب أن يحترم الكاتب نفسه وكيف يترفع عن السياسة وكيف يعتبر أن الكتابة مهنة أسمى من مهنة السياسة والمشتغلين فيها فعندما أرغمه عبد الناصر ذات مرة أن يكون وزيراً للإرشاد القومي رغماً عنه وفي أول اجتماع لمجلس الوزراء وكان فيها الأستاذ رئيساً لتحرير جريدة الأهرام وكان الوزراء يناقشون قضية ما في ظل صمت هيكل،  سأله عبد الناصر “رأيك ايه يا هيكل” أجاب الأستاذ “دي تبقى مانشيت هايل بالأهرام بكرة” ما استدعى أن يصرخ عبد الناصر قائلاً “حتى هنا صحافة يا هيكل”؟ هكذا كان أميناً لمهنته ولم تغره السلطة ولا الوزارة غادر بسرعة مترفعاً ووقف الى جانب السياسة مفكراً حكيماً ناصحاً مستشاراً للجميع بوطنية مصرية قل نظيرها ولم يبخل في تقديم استشارته لكل التيارات السياسية المصرية التي كانت تطلب رأيه حتى الذين خاصموه وهاجموه عندما اختلف معهم عندما زاره الجميع قبل الانتخابات المصرية. كان زائر التاريخ الذي لم يتوقف عن طرق أبوابه باحثاً عن الحكمة في منطقة كانت الحكمة آخر اهتماماتها وسط صراعات السلطة التي لم تتوقف،  قدم قراءات مختلفة لكل أحداث نصف القرن الماضي من الحرب العالمية الثانية وما بعدها لرجل داهمته السياسة في عقر مهنته وظل محافظاً على المسافة بين الصحافي والسياسي دون أن ينزلق في متاهات السياسة ونزاعاتها الصغيرة والخصومات الدائمة بين هواتها الذين قدموا أسوأ ما لديهم من تجربة حكم حكمت على العالم العربي بالتراجع بعد ثورات الحرية والتخلص من الاستعمار في خمسينات وستينات القرن الماضي. ظل بوصلة ثابتة من الصراع مع اسرائيل ولم تغيره الظروف ولا موازين القوى ولا الزمن المائل نحو أميركا بل ظل يلوم العرب في حجيجهم الذي فقدوا فيه كل شيء نحو البيت الأبيض وعادوا بلا شيء متسائلاً بحرقة ألا يمكن للعرب أن يكونوا متعددي العلاقات داعياً أن تبني صراعاتهم وتحالفاتهم على معرفة دون اندلاق لأن تجاهل أميركا مغامرة لا يقدر عليها العرب وتحالفهم غير المحسوب أيضاً لا يقدر عليه العرب ولكنهم ظلوا أسرى  العلاقات  الحادة اما عناق كما يحدث في الخليج واما طلاق كما حدث مع صدام حسين وفي الحالتين كانت المغامرة كبيرة. كتب ومقالات هيكل كثيفة وملآى بحكمة السياسة ولون مدهش في الصحافة وكلما سألني الجيل الجديد من الكتاب ماذا يقرأون أجيبهم بسرعة اقرأوا كل ما كتب هيكل فهو لوحده مدرسة كبيرة أصابت جيلنا بالانبهار منذ أن قرأنا كتابه الأول لنصاب بإدمان البحث عن كل ما كتب وكل ما قال عنا ولنا وفينا من مقارنات وأسرار السلطة في الوطن العربي من المغرب للخليج ليطيح وحده بعروش وجيوش ملأت شاشات الفضائيات عروبة وقومية واذ به يعريها ويحولها الى هياكل عظيمة شديدة الانكشاف. كل مقال كتبه هيكل يمكن أن يكتب عنه مقالات وكل كتاب يكفي لكتابة كتب ولا يتسع مقالاً واحداً لقول أي شيء عن عظمة وعبقرية هذا العملاق والذي كان كبيراً حتى في موته عندما توقف عن تناول الدواء في أيامه الأخيرة بعد أن توقفت لديه الكلى تماماً حين سأله ابنه الطيب عن السبب أجاب بهدوء الكبار “خلاص الرحلة انتهت”. انتهت الرحلة ولكن التعاليم وخزان الحكمة التي تركها لأجيال بعده لم تنته فلترقد روحه بسلام كما كان يحلم لهذا الوطن العربي الذي أحبه وانتمى اليه حتى العظم بصدق كابن وأستاذ ومعلم..!!   Atallah.akram@hotmail.com

مشاركة :