الرواية محاكمات أدبية يحتاجها العالم العربيأصبح فن الرواية يتصدر السرد العربي باتفاق معظم النقاد والمهتمين بالأدب باعتبار الرواية الأقدر على عكس ما تعيشه المجتمعات الحديثة من تحولات وإشكالات متعددة وعلى كافة الأصعدة، ولهذا استطاعت أن تخلق الحدث في العالم العربي بتوظيفها العديد من التقنيات السردية والصور الجمالية والتخيّلية لاكتشاف عوالم ما تحت الظاهر والتقرب من المهمّشين والمنبوذين والمسحوقين ومن لا صوت لهم.العرب محمد بن امحمد العلوي [نُشر في 2018/02/15، العدد: 10901، ص(15)]الرواية تتسيد الأدب العربي ضمن فعاليات معرض الدار البيضاء الدولي للكتاب الذي يستمر حتى الـ19 فبراير انتظمت مؤخرا ندوة نقدية حاول خلالها كل من الروائيين المغربي عبدالكريم الجويطي والتونسي كمال الرياحي أن يقرّبا الجمهور إلى عالم الرواية العميق وتحدياته المتعددة. الأدب المنقذ يقر كمال الرياحي بأن انتشار الرواية وهيمنتها على بقية الأجناس الأدبية الأخرى من ناحية المقروئية، ظاهرة لم تعد محل تجاذب واختلاف، فهي الجنس الأدبي المرحب به عند كل من الناشرين والقراء. وللتعمق أكثر في رؤيته طرح الروائي التونسي مجموعة من الأسئلة يتناول فيها سر تسيّد هذا الجنس الأدبي في وقت وجيز للمشهد الأدبي، وما الذي جعل منه مركزا بعد أن كان جنسا طفيليا نعته النقاد القدامى بأبشع النعوت والأوصاف، وأسقط عنه بعض الغلاة حتى الصفة الأدبية؟ هل نحن في حاجة إلى هذا الجنس الأدبي إلى هذه الدرجة؟ ويرى الرياحي أن الرواية في هذا المستوى تصبح مهمّة لنشر الوعي السياسي والبيئي والاستراتيجي، وهي بذلك شريكة لبعض الفنون الأخرى المؤثرة في الشعوب كالسينما. والمتأمل في المشهد العربي لا يفوته، كما يرى الكاتب في مداخلته، أن العالم العربي ليس له بديل غير الرواية والوعي الذي تقدمه. أما عبدالكريم الجويطي فيرى أن وظيفة الرواية وعظمتها تتمثلان في أنها جنس يحطم نفسه باستمرار ويتطور أيضا، وأهميتها داخل المجتمعات المعاصرة، كما يتصورها الجويطي، هي أنها قامت بحركة مضادة لتشظي العلوم الإنسانية، كون تلك العلوم منذ القرن التاسع عشر بدأ كل علم منها يستقل بذاته ويبني موضوعه وجهازه المفاهيمي، لذا أخذت الرواية على عاتقها أن تبني نصا تلتقي فيه كل تلك العلوم وأصبحت تقدم خدمة كبيرة للبشرية عبر تقديم معرفة متناسقة. وخلص الجويطي إلى أن العالم العربي في حاجة للرواية كوننا لا نعيش زمن الرواية وليست لديها المكانة التي يتوجب أن تكون عليها، وفي أعماقنا مازالت مكانة الشعر مهيمنة بالرغم من الجوائز والمكانة التي تحظى بها، فمازلنا لم نقم كعرب بالنقلة الحقيقية في اتجاه الرواية وهذا الجنس الأدبي في بداياته الأولى.كمال الرياحي: الرواية العربية عمقت عبر تاريخها حاجتنا إلى عملية التثاقف الداخلي والأسباب التي أدت إلى هذه المشكلة، بحسب الجويطي، متعددة كالأمية ووضعية الجامعات في العالم العربي، التي استقلت من مهامها التنويرية أو سيطرت عليها الأصولية، حيث أن هذا الجنس الأدبي يعيش من خلال الحداثة والذين يصنعون الرأي العام والقرار في الجامعات لا ينظرون بارتياح للرواية. ولهذا فالرواية، كما يعقّب الرياحي، لا سقف مكانيا لها يعرقل تحركها، فمن طبعها الاختراق وهي قادرة على تحريك السواكن والمياه الراكدة وتأجيج الوعي أينما كان، هكذا تشيّد الرواية هذا العالم الحر بديلا صنعه الروائيون احتجاجا على الواقع الراهن الذي صنعه الحكام. ومن وجهة نظر الرياحي، فإن الرواية تبدو الوسيلة الأخيرة في أيدي الشعوب الفقيرة اليوم للتعبير عن نفسها، ولترتقي بها نحو مسيرة التطور الاجتماعي وتحسين وضعها الاقتصادي واستحقاقاتها من قيم الحرية والعدالة والمساواة وغيرها، وهذا ما يرتفع بهذا الفن الذي ولد مع نشأة البورجوازية ليضطلع بمهام الإنسان والإنسانية التي تقطع مع أصل مولده، ليتحول من الفن الترفي إلى فن الضرورة باعتباره سلاحا موزعا بالعدالة. التثاقف الداخلي الروائي ليس هو المؤرخ وليس هو الشاعر ولكن الروائي الحقيقي كما يتصوره الرياحي، يراقب ويرصد ويجمع ثم يسجل حتى شبّهه بميزان الحرارة الذي يستطيع أن يقرأ المجتمع في حالته الحقيقية، ويقدر الاحتمالات أكثر مما يستطيع السياسي الذي يقرأ المجتمع من خلال الرغبات والشعارات. هنا تخلق الرواية تاريخا مضادا. فكل رواية منشغلة بأسئلة راهنها هي رواية تكتب التاريخ المغيّب من التاريخ الرسمي، ولعل هذا ما يشرع لعبارة كونديرا، لا شيء يستثنى بعد اليوم من الرواية فهي جماع الخطابات، خطاب واصف ومحرض ومنذر ومحذر. أما الجويطي فيعتقد أن الروائي حين يتناول التاريخ سينتصر لتاريخ المهمّشين والمحرومين وأولئك الذين حرموا من الكلمة، وبذلك كانت الرواية مربكة ومُخلخلة للقناعات التي يراد لها أن تُرَسَّخ. ويضيف أن ما يُطلب من أخلاق الروائي لا يطلب من أي جنس أدبي آخر، إذ لا يمكن كتابة رواية بثقافة ضحلة، فالروائي بالضرورة ولو بالفطرة هو مثقف عميق لأنه يريد تقديم رؤية للمجتمع، يريد لمجتمع ما أن يرى وجهه في مرآة الرواية. وعلى صيغة الخطاب التحذيري ظل الروائي عبر تاريخه جرسا منذرا من المخاطر سواء كانت تلك المخاطر سياسية أو تلك المنذرة بخطر التطرف الديني أو الكوارث البيئية وحتى الروايات الاستباقية وروايات الخيال العلمي التي تروي قصص مستقبل الإنسان في الكون وتلك الروايات التي تتوقع الثورات في مجتمعات تبدو مستقرة.عبدالكريم الجويطي: العالم العربي في حاجة للرواية كوننا لا نعيش زمن الرواية كل تلك الرؤى بدأت تخلق نظرياتها العربية، ولهذا يقول الرياحي إننا أصبحنا نتحدث عن الرواية التوقعية والاستباقية التي تنبّأت بالانتفاضات الشعبية ومستقبل نهاية النفط وظهور الطاقة البديلة، والغاية من هذه الروايات ليست تبشيرا بنهاية النفط لأن تلك حقيقة علمية، لكن غايتها تحذير الشعوب التي تعيش من الريع النفطي بضرورة التفكير في مستقبلها بعد النفط ويشمل التحذير العلاقات الاستراتيجية لتلك الشعوب وأنظمتها مع الشعوب الأخرى وأنظمتها. ويضيف الرياحي أن الرواية العربية عمّقت عبر تاريخها حاجتنا إلى عملية التثاقف الداخلي، فأصبحت القضايا القطرية قضايا رأي عام عربي كمحاكمة الكتاب أو الاعتداء عليهم بالسجن أو بالضرب، وهكذا فالمواطن العربي المستهلك للرواية أكثر دراية بالشعوب العربية الأخرى. والرواية المغاربية، كما يرى الكاتب التونسي صار لها زمنها الخاص داخل الزمن العربي العام، وهي تنتزع حضورها الذي تستحقه في المشهد الروائي العربي يوما بعد يوم منذ الثمانينات من القرن الماضي وحتى قبل ظهور الجوائز الحالية التي لها دور أيضا في التعريف بها. لكن عبدالكريم الجويطي لا يؤمن بأن هناك مشرقا ومغربا في الرواية العربية ومن يفتعل هذا الأمر هي المؤسسات التي تريد أن تحدث صراعا وهميا، لدينا زمن ثقافي واحد ومرجعية ثقافية واحدة الانتماء هو للغة التي نكتب بها ولما تبيد عبها فهو الانتماء الحقيقي للكاتب. ونذكر أن عبدالكريم الجويطي هو من أهم الروائيين المغاربة وله العديد من الأعمال الروائية منها على الخصوص رواية “المغاربة” التي وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية البوكر لعام 2017، وتوجت في نفس السنة بجائزة وزارة الثقافة في فرع المحكيات والسرديات. أما الروائي التونسي كمال الرياحي، الفائز جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة، في حفل أقيم على هامش الدورة الرابعة والعشرين للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء المغربية، فقد صدرت له العديد من الأعمال الأدبية والنقدية أهمها “نوارس الذاكرة” سنة 1999 و”المشرط” وهي رواية متحصّلة على جائزة الكومار الذهبي الأدبيّة لعام 2006.
مشاركة :