مهاب نصر| ما إن تسمع كلمة «المادية» حتى تشعر وكأنك انتقلت إلى زمن آخر بعيد، بعد الصراع الفلسفي والسياسي بين ماكان يبدو يوما ما منطقين مغايرين للحياة وفهمها على السواء. هي مغامرة إذن أن يستخدم تيري إيغلتن، الناقد والمفكر الإنكليزي، عنوانا كهذا لكتابه الصادر العام الماضي عن منشورات جامعة ييل، والذي قام بترجمته إلى العربية عبدالإله النعيمي، ليصدر في العام نفسه عن دار المدى. من المدهش أن ترى تلك الطاقة السجالية لإيغلتون التي لا يوفرها للكشف، لا عن معايب عصر الرأسمالية ما بعد الصناعية فحسب، بل عن البناء الفكري المساند لها والذي يوفر لها، عن دراية أو غفلة، شرعيتها، ويمكنها من مزيد من استلاب الإنسان واغترابه. يقف إيغلتون، مثل مفكرين آخرين كسلافوي جيجيك، ونعوم تشومسكي، في مواجهة التيارات ما بعد الحداثية التي ترفض وجود حقيقة ملموسة، وتعيد تفسير المادة بما يبقي على الازدواج القديم بين المادة والروح، بين الفكر والواقع، وهو ما يعطل قدرة الإنسان على القبض على الحياة، ونقد الواقع. من اللافت في هذا الكتاب أن الوعد الذي يقدمه في بدايته سرعان ما نفاجأ باختفائه، ثم لا يعود أبدأ. إنه يعدنا في البداية بالحديث عن الجسد. ولكن من وجهة نظر أكثر شمولية واتساعا. سرعان ما ينحي إيغلتون جانبا المقاربات مابعد الحداثية والثقافوية للجسد التي تجعل منه موضوعا «ماديا» محضا سواء أكانت تسعى إلى تحريره، أو تظهر مقدار القيود الرقابية المفروضة عليه. عن الجسد كثيرة هي الدراسات الثقافية المعاصرة التي تتناول الجسد الإنساني، (وربما أجزاء منه) وتصنع لها تاريخا إثنيا منفصلا. يرفض إيغلتون هذه المقاربات. كما يرفض ما يسمى بـ«المادية الجديدة» التي يراها صدى من أصداء الفيلسوف الفرنسي الراحل جيل دولوز. ثيمة «الجسد» من أشهر الثيمات المنتشرة خلال السنوات الأخيرة من الأدب إلى الصحة العامة، ومن السياسة إلى التأمل الروحي. حتى على متصفح «غوغل» العربي يمكنك العثور على ما يقارب نصف مليون مادة تتعلق بالموضوع. لكن أي جسد؟ لقد بدا وكأن الإنسان المعاصر يكتشف ما قمع وأبعد من قبل. ففي عصر اهتزت فيه الحقيقة وبدا الواقع منفلتا وعدائيا، ظهر الجسد وكأنه المرجع الذي لا يمكن الشك فيه، فهو موطن الحقيقة التي سجنت وقمعت لمصلحة الهيمنة الاجتماعية، أو سيطرة العقل. «اعتن بجسدك» صارت بديلا عن اعتن بروحك، باعتبار الجسد هو كل شيء. لكن إيغلتون يظهر الخدعة هنا، التي تجعل من الجسد (مفصولا عن الوعي والتاريخ) أصلا ما إن تتفحصه حتى يفلت ويتحول إلى هباء. من هذا الباب يهاجم إيغلتون مادية دولوز وخلفه الذين يتحدثون عن مادية مرنة غير محددة، شائعة، دائمة الصيرورة، ومستعصية. يقول إيغلتون «المادية الجديدة تقدم نفسها بوصفها راديكالية على وجه التحديد. ولكن ليس من الصعب أن نرى كيف أنها ترتبط ارتباطا وثيقا بطبيعة الرأسمالية ما بعد الصناعية ـ بعالم يجرد العمل والرأسمال من ماديتهما ليصبحا إشارات وتيارات وشفرات. فالظواهر الاجتماعية متحركة ومتعددة ومتغيرة باستمرار، والصور والتمثيل والوقائع الافتراضية تبسط هيمنتها على كل شيء مبسط بشكل صارخ من الأشياء المادية. وفي هذه البيئة التشكيلية إلى درجة لا متناهية يقدم الاستعصاء الخالص للمادة شيئا من قبيل الفضيحة». عن أي مادة نتحدث؟ يهجر إيغلتون (ظاهريا على الأقل) الحديث عن «الجسد» في كتابه، فلا نعود نعثر عليه مرة أخرى. وكأنه كان تكأة فقط للحديث عن أصل المشكلة: التفسير الخطأ للمادية. يوضح إيغلتون هذا التفسير الساذج بنظر الرجل البرجوازي الذي يرى إلى المادية على أنها البضائع والانغماس في الملاذ والسعي إلى الربح.. وأن هذا الشكل تحديدا من المادية الساذجة هو الذي يدفعه إلى اللجوء إلى أوهام خلاص متمثلة في السحر والتصوف أو ـ كما يقول ساخرا ـ قراءة الطالع والتسامي الروحي برسم الطلب، الرائجة كلها في هوليوود. ما يجادل عنه إيغلتون، خاصة في نقده العنيف لما بعد الحداثة، هو كون المادة لا حضور لها إلا مرتبطا بالفعل الإنساني، ومن ثم بالتاريخ والوعي، معيدا أيضا نقد الثنائية الزائفة عن الفكر والمادة. في هذا الإطار يستدعي إيغلتون آراء كارل ماركس وفريدريك عن المادية التاريخية من جهة، والمادية الجدلية من جهة أخرى. لكن الطريف في الكتاب هو إعادة اكتشاف مشتركات بين ماركس وفلاسفة آخرين كانوا يعدون، من وجهة نظر مدرسية، معادين للفلسفة الماركسية بنسب متفاوتة. هكذا يقيم إيغلتون حوارا فلسفيا بين ماركس وسبينوزا ونيتشه وفتغنشتاين. إمكان التغيير إن ما يهم إيغلتون من وراء الكتاب، وإن لم يفصح عنه بشكل كاف، هو إمكان التغيير، إمكان سيطرة الإنسان على واقعه وقدره. وهو يرى في ما يسمى «المادية الجديدة» إخراجا للمادة من إمكان السيطرة، وتحولها لوحش ميتافيزيقي دائم التحول ومنفلت. ومن ثم، بينما تتصور «المادية الجديدة» أنها تفلت بالجسد الإنساني من أسر المواضعات الاجتماعية، والسياسية الحيوية (بتعبير ميشال فوكو)، علاوة على الأوهام الأخلاقية، فإنه تطرده إلى عالم أشد ميتافيزيقية. وبينما تحاول أن ترده إلى الطبيعة، وتصالحه على الكون المحيط به، فإنه تحوله إلى مجرد ذرات من الغبار الدائر في الفلك الكوني بلا معنى ولا غاية. «هذا كتاب عن الجسد من بين أشياء أخرى». كانت تلك هي العبارة الافتتاحية للكتاب، وقد كانت تلك الأشياء الأخرى هي إعادة الجسد الإنساني نفسه إلى موقعه المتأثر والفاعل، المنتج للوعي والعائش فيه، صانع التاريخ والباحث عن التحرر من أوهامه في الوقت ذاته. أخيرا يبدو إيغلتون مثمنا «الحداثة» رغم مثالبها، في مواجهة اللايقين ما بعد الحداثي، فالأولى، رغم أخطائها، كانت تقدم وعدا، ورؤية أكثر عمقا ونضجا للصراع الإنساني.
مشاركة :