شغل مفهوما الخير والشر،حيزا وجوديا وفلسفيا عند الكثير من الكتاب والفلاسفة وعلماء اللاهوت، وأرجع بعض المتدينين هذه المعضلة إلى الخطيئة الأصلية، لآدم وإن البشر يولدون خاطئين، وفي نفوسهم شيء من الشر أو الظلام،وينقسم الشر إلى نوعين : الشر الطبيعي كالبراكين والفيضانات والزلازل وتفشي الأمراض،وهو الشر الذي لا علاقة ليد الإنسان به وليس له غاية أو سبب، والشر الأخلاقي: وهو الشر الذي يكون من صنع الإنسان وتدبيره مثل جرائم القتل والحروب، وإلحاق الألم بالآحرين. في كتابه " عن الشر" يفكك الناقد والمفكر البريطاني مفهوم الشر والعودة إلى جذوره الأصلية والفلسفية، مسلطا الضوء على بيئته الإجتماعية والنفسية، والظروف التي جعلت منه مفهوما يرتبط بالسوء واللاخلاقية في نظر البشر. تناول العديد من الفلاسفة فكرة الأخلاق في المجتمع وتبين أن الأخلاق نسبية في المجتمعات، ويختلف فيها مفهومي الخير والشر تبعا ً لعادات وتقاليد هذا المجتمع أو ذاك ويصبح الخير ركيزة أخلاقية في مجتمع ما عندما تتوافق مصلحة الجماعة وطموحاتها مع هذا الفعل، وكذلك بالنسبة للشر الذي يشكل عائقا لمصلحة الأفراد في المجتمع ورغباتهم، إذن يمكننا القول أن الجماعة تنظر إلى مجموعة من الأفعال السيئة التي تلحق الضرر بالآخرين على أنها شر، وكذلك مجموعة من الأفعال التي تجلب المحبة والرحمة واستعطاف الآخرين على أنها خير، علما أن كلا الفعلين يرتبطان بسلوك الفرد الواحد،أما التسمية والمفهوم فالمجتمع هو من يطلقها وتصادق عليها جميع المؤسسات والقوانين. يفرق تيري ايغلتون في كتابه بين الخبث والأعمال اللاخلاقية من جهة، وبين الشر من جهة أخرى، معتبرا أن الشر هو سلوك ناتج عن أشياء مثل الحسد والغيرة والغضب، وهو عبارة عن رغبات جائعة ومتناسلة في النفس البشرية، وهو ما أطلق عليه فرويد دافع الموت، كما يرى تيرى ايجلتون أن الشر هو مبهم وغامض وليس له تعريف محدد،وليس له غاية ولا مسبب، إنه الطاقة التدميرية أو غريزة الفوضى الناجمة عن نقص وحرمان في الوجود. حيث تقتصر وظيفته في إشباع الحياة من الآخرين نتيجة غياب مؤلم في النفس. ويرى هيغل أنه كلما ازدادت الحرية الفردية كان الشر في حالة نشاط قد يتردد سؤال إلى القارىء عن المفهوم الشائع لفكرة الشر،هل الشر فعلا هو سبب كل الشهوات والرغبات البشرية على الأرض؟ ينفي تيري ايغلتون هذا المفهوم في كتابه مستشهدا بعدة أمثلة وهو في ذلك يقول :..فكر في الفرق بين شخص يمارس السادية من أجل المتعة الجنسية في علاقة جنسية بالتراضي، والشخص الذي يوقع ألما ً مبرحا ً على شخص آخر من أجل تهدئة إحساسه بضعف الشخصية؟. يرى ايغلتون إن الوعي العميق بالشر محدود وضئيل وجدا في الواقع، بل يكاد يكون معدوما ً، لكن لا يخلو الأمر في أن يكون الشرير. شريرا ً بمحض إرادته الحرة، مستشهدا بعدة أمثلة من عالم الأدب أطلق عليها ايغلتون بروايات الشر: مثل رواية بنتشر مارتن لوليام غودنغ، ورواية أمير الذباب، ورواية الفردوس لجون ملتون وغيرها. وقد أطلق مصطلح الطغاة الطيبون، على مجموعة من الأفراد الذين يعملون في سلك السياسة وأجهزة المخابرات، فبالرغم من عملهم في تعذيب المساجين بأقسى وأبشع الطرق اللاأخلاقية، إلا أنهم قويمو السلوك في المجتمع وهم أزواج أوفياء وآباء تملؤهم الرحمة والشفقة،وهم يدعون الوطنية ومخلصين تماما ً في جميع انتماءاتهم ، فكثيرا ما تستفزنا الدهشة عندما نشاهد طاغية قتل الملايين من البشر، وأزهق أرواح لا ذنب لها في الحياة، لكنه يبكي لمنظر طفل متسول أو فتاة يتيمة، أو يتأثر أكثر مما يتأثر غيره من البشر الأسوياء بمناظر ومشاهد يكون فيها في غاية الرقة واللطف، بل ربما يكون إنسانا ًمرهفا أكثر من غيره. لذا يقترح ايغلتون أن نسمي الأفعال الشريرة بالأفعال السيئة، وهو يتبنى تفسير هذه الأفعال إلى الدوافع البيئية المتمثلة في الظروف الاجتماعية، وإلى سبب آخر ذاتي يتعلق بمؤثرات الشخصية التي تتحكم في سلوك الفرد، وقد يجتمع السببان في الفرد، لذا توصل ايغلتون أن أصحاب الشر هم أبرياء، لأن الشر يكمن في أسباب بيئية ونفسية لا ذنب لفاعل الشر فيها. الشر البريء عند الأطفال عندما نشاهد مجموعة من الأطفال يلعبون، أو يتناقشون في أمر ما يمكننا أن نلاحظ أبعاد الشخصية المستقبلية عند كل طفل وطبيعة السلوك التي من الممكن أن ينشأ عليها، فكثيرا ما نلمح الحقد والضغينة وحب السيطرة والأنانية وفي الطرف المقابل أيضا هناك الطيبون وضعاف الشخصية والمضطهدون دائما ً الذين يتعرضون للإقصاء والسخرية لكن هل من الممكن للشر أن يتفاقم بطريقة غير معقولة عند الطفل مقارنة بالرجال والبالغين؟ يروي تيري ايغلتون عن حادثة وقعت في بلاده قبل خمسة عشر عاما ً، حيث عذب طفلان يبلغ كل منها من العمر عشر سنوات طفلا ً أصغر منهما عمرا ً ثم قتلاه دون معرفة الأسباب بوضوح،مما شكل هذا الفعل صدمة حقيقية للرأي عام . وبالرغم من أننا ننظر للأطفال على أنهم أبرياء لأنهم يتصرفون بعفوية خارج ضوابط العادات المتعارف عليها، بل وخارج المنظومة الأجتماعية بأكملها، إلا أن هذه البراءة من الممكن أن تخلق فعل الشر، فالأطفال كائنات شبه اجتماعية ومن الممكن أن تتحول إلى وحشية لو أتيحت لها الظروف. يرى فرويد في التفسير النفسي للأطفال مقارنة بمن يكبرهم سنا ً أنهم أضعف إحساسا ً بالأنا العليا، وأضعف حسا ً أخلاقيا، لذلك فإنه ليس من المستغرب لو تهيأت السلطة المطلقة للأطفال فإنهم سيقومون بتدمير الكوكب بأكمله. رواية أمير الذباب لويليام غولدنغ عام 1954 تؤكد هذه الفكرة حيث تحكي القصة مجموعة من الأطفال الإنجليز الذين نجوا من تحطم طائرة نتيجة حرب نووية مستقبلية بين انجلترا والشيوعين، حيث ينتظم الأطفال في جماعات تشبه الجماعات البدائية وتبدأ بسن القوانين لتنظيم حياتها، وتضع هدفا للخلاص من هذه الجزيرة، لكن جماعة من الأطفال الشريرين أو سيئي الأفعال ينقسمون عن المجموعة التي يرأسها الطفل رالف الطيب وصاحب المسؤولية ويبدؤون بارتكاب الافعال الشنيعة مثل التخريب ومعاقبة زملائهم الأصغر سنا وقتل الخنازير، إلى أن يصل الأمر إلى قتل عدة أطفال من مجموعة رالف بالسهام والحجارة ويعلق الراوي: هنا سيقتل الأطفال جميعهم قبل أن ينتهي الإسبوع. وهذا ما قد يؤكد لنا إن البراءة بقدرما تخفي في جوانبها من المحبة والجمال، بقدر ما يختبئ في أعماقها ما هو همجي ومدمر، بل وقبيح أيضا. لماذا؟ احتجاجا على الشر الطبيعي الذي يتسبب بالضرر للإنسان، حملت البشرية لافتة اعتراض على هيئة سؤال ...لماذا ؟ هل الشر من عند الإله؟ أم أن الطبيعة عبثية وفوضوية ولا تخضع لنظام لا يجد البشر مبررا عقليا ً أو تفسيرا منطقيا ً لغضب الطبيعة وقسوتها، رغم أنهم يعرفون أن الزلزال هو نتيجة شق عميق بالأرض، وإن بعض الأطفال يرثون الأمراض والعاهات المستديمة جينيا من الآباء أو الأمهات، لكن كلمة لماذا وعلى حد تعبير ايغلتون هي بمثابة رثاء وليس استفسار، إنها احتجاج على بعض النقص العميق في منطق هذا العالم من هنا تأسست أحد فروع الفكر التقليدي والمعروف باسم " ثيوديسي" وتعني حرفيا ً تبرئة الإله. يحاول علم الثيوديسي شرح وجود الشر ومن ضمنها الشر الطبيعي، بطريقة تجعل الإله خارج دائرة الإتهام. يشير اللاهوتي كينيث سورين إنه كلما نظرنا إلى العالم بوصفه كيانا عقليا ً متناغما ً أصبحت مشكلة الشر أكثر الحاحاً. يبقى مفهوم الشر عند الإنسان ملتبسا وغامضا، فليس بالضرورة أن نسمي الأشياء التي تسبب لنا ألما ً بالشر، فكل عنصر وكل كائن في العملية الكونية يجب أن يقوم بعمله، فمثلا ً عندما تلدغك أفعى أو عقرب فإنها تقوم بواجبها، وكذلك الحال عندما يهاجمك حيوان مفترس كالنمر أو الضبع، حتى الفيروسات تتكاثر لإنها يجب أن تتكاثر لأن وظيفتها كذلك مادام العالم في حالة من الحركة والصراع والخلق. إن العالم المركب من ثنائيات وتضادات يحتم علينا النظر بطريقة أخرى، ومراجعة كل طرق التفكير السائدة وعلاقتها باللغة وتأثيرها في حياتنا، فالنور يحمل في ثناياه جزءا خفيا من الظلام، والظلام أبيض قلبه وإن غمرت حلكته الأرض، كذلك بالنسبة للخير والشر فكلاهما ينبثق من الآخر، وكلاهما يكمل الآخر.وقد يخفى عنا أيضا ً أن الشر كان مكونا أساسيا في بناء الحضارات وازدهارها، كما أنه شرط للكينونة وبناء الشخصية، وحافز مهم للإبداع على مستوى الأدب والفن، فرفض الواقع والسخرية منه يحمل في ثناياه شر أيضا،كذلك هو الحال عندما نختبر مشاعرنا في الكسل والخوف والحسد فنكون أكثر عدوانية من سوانا. فلندع الأشياء تمر علينا بسلام وهدوء دون التفاعل معها وتسميتها، ودون أن نسأل لماذا ؟؟
مشاركة :