محمد العباس حينما يقع الناقد في المصيدة !

  • 2/19/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

لا يمكن لقارئ حيادي يقرأ بموضوعية متجردة من المحسوبيات الشخصية، والذهنية المبنية بشكل مسبق على تاريخ تراكمي من القراءات المتنوعة، إلا أن يكون منصفاً جداً لشخصيتين سعوديتين إحداهما كاتب والآخر "كاتب وناقد أدبي" حيث أبدع كلاهما في مجاله. فأما الكاتب فهو الروائي الحائز على جائزة البوكر في نسختها الأخيرة (محمد حسن علوان) وذلك عن روايته (موت صغير) والذي عرف عنه الميل إلى شعرنة الرواية وشخوصها بشكل لافت يروق للبعض، فيما يراه آخرون خطاً سردياً يشكل عبئاً على الرواية. أما الشخصية الثانية فهي شخصية الكاتب والناقد السعودي (محمد العباس) الذي انفرد عن بقية النقاد بأسلوبه، فهو ناقد اتخذ لنفسه خطاباً نقدياً يجهد في نحت مفرداته بشكل لافت أيضاً جعل المتابعين ينقسمون حوله، فمنهم من يراه ناقدا متميزا له قاموسه النقدي الخاص، فيما يراه فريق آخر أنه ارتباك نقدي لا أكثر، واستعراض مصطلحاتي يميل للمظهرية والاستعراض، وفي كلا الحالين فإن العباس وعلوان اسمان لهما حضورهما في الساحة الذي يحتاج أن يعاد قراءته بشكل نقدي متمكن ومتجرد يضعهما في موقعهما الصحيحين. ولأن رواية (موت صغير) قد حازت على جائزة البوكر، فقد كان من الطبيعي جداً أن تحظى بنصيب هائل من قراءات وتعليقات وملاحظات النقاد والأدباء من مختلف دول العالم العربي، ومن الطبيعي أيضاً أن تكون الأصداء والآراء النقدية في حالة تضاد بين من يرى تلك الرواية قد حازت على الجائزة باستحقاق منقطع النظير لفردانيتها اللغوية وتركيبها الدرامي والعديد من الأسباب الأخرى التي برر بها النقاد إعجابهم، وبين أولئك الذين يرون أن الرواية ليست إلا حالة من الخذلان الكبير، إذ لم توازِ حجم وطموحات القراء الذين توقعوا أن يكون عملاً توثيقياً وتاريخياً ضخماً يوائم شخصية ابن عربي، وما صاحب الإعلان عنها من ضجة كبرى جعلتهم يترقبون صدورها عن دار الساقي، إلا أنهم أصيبوا بخيبة أمل كبرى كما يقولون، ولهم مبرراتهم التي قد يتفق معها القارئ أو ينقضها، باختلاف معاييره النقدية وذوقه الأدبي وخبرته السابقة، واندماجه مع تلك الشخصية وطريقة (علوان) في سردها بطريقة نفى علوان نفسه أن تكون تاريخية أو توثيقية كما يجيء في أدب السير الذاتية. لكن صاحب الرأي الأكثر جدلاً وإثارة حول الرواية كان محمد عباس، الذي كتب مقالين بعد إعلان فوز علوان بجائزة البوكر، فقد كتب في مقاله الأول الذي عنونه بـ "زلزال عنوان الناعم" ما نصه: "منذ أن أعلن في الخامس والعشرين من شهر أبريل/نيسان عن فوز محمد حسن علوان بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عن روايته "موت صغير" وردود الفعل تتوالى ما بين مهنئ ومستنكر، فرح وغاضب، مبتهج ومحتج، وإذ يمكن فهم سر الفرح الغامر عند قراء النجم البوكري الجديد، يصعب استيعاب معنى ومبررات ذلك الرفض الصريح والمضمر لفوزه، خصوصاً ضمن دوائر المتعنتين ممن ينتمون إلى ما يعرف بالمراكز الثقافية، حيث كان حصوله على أهم جائزة للرواية العربية، بمثابة النقطة التي أفاضت كأس غضبهم، خصوصاً أن تتويجه يأتي بعد فوز عبده خال ورجاء عالم مناصفة مع محمد الأشعري في دورتين سابقتين، وبالتالي فإن تثليث النتيجة خلال عشر دورات يعني استئثار السعودية بالنصيب الأوفر من الجائزة، وهي نتيجة لا يمكن التسليم بها عند فيصل من المثقفين الذين مازالوا ينظرون إلى دول الخليج كمحطة متخثرة من التاريخ ومناجم للمال لا للإبداع. جائزة البوكر ذاتها اتهمت في بواكيرها بأنها جائزة نفطية، يراد بها تدمير الخطاب الروائي، إلا أن الذين وجهوا لها كل ذلك السيل من الشتائم والاحتقار لم يمتنعوا عن الاشتراك فيها، سواء كمتسابقين أو ضمن لجان التحكيم". بدأ العباس مقاله آنف الذكر بهذه الافتتاحية التي أوحت للقراء بأنه من فيصل المعجبين بأسلوب الرواية؛ حيث كانت سطوره تنقض وتستنكر وتدين الخطاب الرافض لهذه الرواية، وتتهمهم بالحياد عن موضوعية النقد، وربما يفهم البعض أن هذه الافتتاحية هي تحامل على النقاد الذين جانبوا الموضوعية واتهموا رواية علوان بالضعف لأنه سعودي، أو لأنه زحزح قوى المراكز الثقافية التي سيطر عليها نوعية معينة من الأدباء، ولكن سطوره التي قال فيها في ذات المقال: "إذ لا يمكن للآخر العربي الذي حبس الإنسان الخليجي في الصورة النمطية للبدوي المستنقع في لحظة تاريخية متخثرة بأن يتخيل شاباً خليجياً يمكن أن يكتب ويبدع ويتفوق وبدون أي محاولة لمطالعة الرواية أو مناقدتها". إلى أن قال عن علوان: "وبتصوري أنه سيكون ثالث ثلاثة بعد يوسف زيدان وسعود السنعوسي، تعتد بهم البوكر ويمثلون إستراتيجيتها، وسيكون اسماً مهماً يمكن الاستثمار فيه والرهان عليه". ففي هذه الأسطر يتبين للقارئ أن الناقد يعتد بعمل علوان وأعماله الأخرى، ويراهن على تشكيله حالة إبداعية ثقافية جديدة. وقد جاء في متن المقال عدة سطور أخرى تؤكد على أن محمد حسن علوان ليس طارئاً على الرواية، ولم يكتبها ليؤكد سعوديته بقدر ما كتبها إخلاصاً لفن الرواية، وأن بعض المستغرقين في أوهام التفوق لا يريدون تصديق فكرة أن الإبداع لا وطن له، وأن الإبداع ليس حكراً على بلد أو فئة، لكن الغريب هو نقض العباس لوصفه لحالة (الإبداع) الروائي لدى علوان، فسطوره وإن كان المراد بها نفي تهمة (نفطية البوكر) إلا أنها لم تخلُ من التغني بأسلوب علوان الروائي، قبل أن يعود لنسف هذه الحالة بقوله: "قد لا تكون روايته على تلك الدرجة من الاكتمال، فهي تخلو من التوتر الدرامي، كما تعتمد على لغة إخبارية بالدرجة الأولى، أما مشاهدها فمبتورة مقارنة بالاستهلالات، وإيقاعها خاطف لا يتناسب مع طبيعة موضوعها الممتد بارتداد عمودي في التاريخ، كذلك يعاني تزمين السرد من بعض الارتباك، وهذه بعض ملاحظاتي الفنية عليها ولكن كل ذلك لا يعني نسف الرواية والخروج في تظاهرة غوغائية لتحقير كاتبها"، ثم عاد ليقول مادحاً: "فهي رواية مكتوبة على شكل حبكات صغيرة تنعقد في سيرة ترحال أفقية، وتدلل على جهد استثنائي، وعلى جدية في الكتابة، وعلى حساسية عالية بمواطن الجمال، وعلى خبرة كتابية جديرة بالاحترام، وهي بمعايير ما ينتج من روايات عربية في الوقت الراهن تعتبر في مقدمة الفعل الروائي". هذا الارتباك النقدي حول رؤية الناقد الكبير محمد العباس لرواية (موت صغير) يجعل القراء في حالة من الحيرة والتساؤلات العميقة، لعل أبرزها هو كيف يمكن أن ترى في هذه الرواية ما يستحق الاحترام، بعد أن سجلت عليها ملاحظات فنية تصيب قوامها بالترهل؟ وتهدم حبكتها وربما تصيب القارئ بالملل، إذ أنها خالية من التوتر الدرامي، وتزمينها السردي مرتبك وإيقاعها خاطف، وتعتمد على لغة إخبارية؟ كل تلك الملاحظات يمكن أن تنسف أي عمل، فكيف يمكن للقارئ أن يوفق بين ما بينه العباس كرأي نقدي نافح به عن فوز علوان أولاً ثم قلمه ثانياً، وبين تلك الملاحظات المرصودة على شكل وقالب ومتن الرواية البوكرية...! ويمكن القول هنا إن محمد العباس لم ينصب أدوات الصيد النقدية بشكل جيد هذه المرة، لأن المصيدة النقدية عادت بذات الطُعم الذي كان يستهدف البناء الهيكلي والحبكة الدرامية للرواية، في محاولة للخروج بنظرة عنها إما إيجابية أو سلبية، مع العلم المسبق بأنه لا يوجد إيجابية مطلقة ولا سلبية مطلقة في أي عمل كان، غير أن قوة الملاحظات الفنية السلبية التي رصدها الناقد الحصيف محمد العباس لا يمكن تجاهلها أو العودة بعدها للقول إن هذا العمل كان عملاً إبداعياً وجديراً بالاحترام. وفي مقال آخر كتبه العباس أيضاً حول رواية موت صغير بعنوان "محمد حسن علوان يفردن ابن عربي" فصل العباس بعض ملاحظاته على الرواية متقصداً في هذه المرة شخصية (ابن عربي) الشخصية الأساسية التي تتمحور حولها الرواية، فكتب في استهلال المقال: "ابن عربي كنص تراثي مركزي ليس شخصية أسطورية، كما يختزلها الوعي العربي، إنما هو مجرد فرد، أو هكذا أراده محمد حسن علوان، فأعاد إنتاج سيرته بمنظور روائي، حيث استجلبه من فضائه التاريخي ومداره الأسطوري، ليدفعه في سياق الكائن البشري، وضمن ما يعرف بزمن الحكاية الكاذب، من خلال أداء سردي مهندس بوعي وقصدية" ففي هذه القراءة اللاحقة ذهب إلى وصف الطريقة الروائية التي حبك بها علوان روايته حول ابن عربي، وفردنته لهذه الشخصية، واستبعاده لسطوة ابن عربي الصوفية، إذ رأى أن الرواية تتحدث عن شخص يتخفف من هالته الروحية ومن سلطته المنغرسة بعمق في وجدان الإنسان العربي، وهذا بحسب قول العباس هو ما يفسر الإحساس بعادية شخصية ابن عربي داخل الرواية التي تبارت فيها كل عناصر السرد، وفي هذا المقال أيضاً حاول الناقد تفسير سبب غياب التوتر الدرامي وأعاب على علوان في طريقة تعامله مع بعض الجوانب المتعلقة بالرواية من الأحداث أو الشخصيات المتداخلة والمؤثرة في صميم ابن عربي نفسه. ولأن العباس ناقد موضوعي بلا شك، وأديب أريب دون أدنى ريب، فإن حالة الفتل والنقض التي جاء بها نقده لهذه الرواية قد شكل ارتباكاً لدى القارئ العادي حول موقف العباس نفسه من هذه الرواية التي لم تحسم مقالاته حولها الجدل عن رأيه، فقد تناول الرواية بملاحظات تسهم في إضعافها من جانب ونقض تلك الملاحظات من خلال تأكيده على هندسة علوان الكتابية في جوانب أخرى من مفاصل الرواية. ليبقى السؤال معلقاً وقائماً إلى أن يجيبه العباس: (هل تستحق رواية موت صغير جائزة البوكر؟). محمد حسن علوان

مشاركة :