صحيح أن الداعشية وغيرها من حركات الإسلام السياسي تذكرنا بعهود مضت، عهد الإنسان الديني أو عهود ما قبل الدولة الحديثة والعقد الاجتماعي (هوبس)، عهود ما قبل السياسة. مع هذا، سيكون من الصعب، على رغم ظاهرها الماضوي القائل بوجود ذروة في الماضي ينبغي العودة إليها أو استحضارها لتذليل الصعاب وتحقيق المأمول، ألا نرى علائقها بالراهن والجاري في مستوى الفكرة السياسية والتحولات الكونية. سيكون من الأصح لو رأينا الظاهرة في سياقها الكوني وكجزء من عولمة تفكك وتبني، تهدم وتُنشئ ما أنتجته البشرية خلال ثلاثة قرون من الحداثة وما بعد الحداثة أو زمن الحداثة السائلة، وصنفناها ضمن محصلات العولمة كسيرورة تؤثّر بقوة في كل شيء، لا سيما الاقتصاد والفكر السياسي والأفكار عموماً والبُنى السياسية والمجتمعات والعلاقات والنُظم والأنساق التي أنتجتها مرحلة ما بعد الحداثة. سيكون من المُفيد أن نرى في الظاهرة الداعشية جزءاً من المتغيرات العميقة التي ترافق العولمة وتكسر الإيقاعات في كل حقل ومساحة بشرية، لا سيما في حقل الدولة باعتبارها درّة تاج الاجتماع ومحصّلة العقد الاجتماعي. وهي زاوية نظر قد تُساهم في تطوير القراءة نحو تصويبها. مثل هذا الجهد مطلوب الآن بإلحاح في ظلّ الردّ المضاد على الداعشية بهيئة تحالف دولي جديد يريد حماية الدولة في الشرق الأوسط كجزء من الدفاع عن مفهوم الدولة كونياً. ونشير هنا إلى أن قراءتنا المجددة للداعشية لا تُغيّر شيئاً من مناهضتنا لها كأيديولوجية شمولية جازمة وكفكرة تنقضّ على الدولة - وليس العربية فقط - من إخفاقاتها وقمعها وقصورها ومن الوهن الذي أصابها نتيجة تحولات تاريخية ذاتية ووافدة، لا سيما اقتصادية تتجسّد في سيرورة العولمة ومفاعيلها. من المتفق عليه في العلوم السياسية الراهنة أن سيرورة العولمة دكّت الحدود من خلال تراكمات تشريعية على مستوى العالم لتسهيل التبادل التجاري والمالي والعمالة وخطوط الإنتاج والبضائع وتسريع نقلها وتحريك الرأسمال من عاصمة إلى أخرى. وبات الاقتصاد الوطني مرتبطاً من عنقه بالاقتصاد الكوني. وصار الاقتصاد الكوني أشبه بنظام متكامل له مراكزه وسياساته، يتجاوز حدود الدول أو يُخضعها في حال التعارض والمواجهة. صار الاقتصاد أقوى من الأوطان، والشركة كتنظيم أخطبوطي أقوى من الدولة اقتصادياً ونفوذاً وامتداداً وتنظيماً. طغى الاقتصادي بمفهومه الماركسي على السياسي بمفهومه الاجتماعي. ومن هنا استخدام الشركات الكونية للدولة ومؤسساتها كبنية تحتية لتوسيع أعمالها وتكديس أرباحها، ولا يقلّ نفوذها وسؤددها. فالهدف هو أن تيسّر الدولة لها الوصول إلى المجتمعات باعتبارها مستهلكة أو مُنتجة (سوقاً) وأن تُطلق يديها حرة في ما تصنعه من أرباح ومن جرائم على الطريق السريعة إلى الربح! يبدو لي أن العولمة المندفعة فتحت ملفّ الدولة من جديد باتجاهين. الأول ـ أنها حضّتها على الاندماج في كيانات أكبر ـ الاتحاد الأوروبي نموذجاً. الثاني ـ أنها شكّلت بُنية فوقية وشبكة أمان حضّت قوى تؤلّف الدولة على الانسحاب من عقدها ـ أنظر نزعة الانفصال في بلجيكا وإيطاليا وإسبانيا وأخيراً في المملكة البريطانية المتحدة. (هنا أيضا يشكّل الاتحاد الأوروبي سقفاً ومظلّة وشبكة أمان). وفي الاتجاهين دعوة صريحة لتجاوز شكل الدولة السيادية المألوف نحو تفكيك ودمج، هدم وبناء. والحاصل أن الأمور لم تظلّ في مستوى الدعوة والحضّ، بل إن مِهدّات العولمة عملت من دون انتظار أو إذن في جسد الدولة على شكل إزالة أنظمة الحماية الوطنية وفرض الطاعة للمؤسسات المالية الدولية، فيما عمدت طوابيرها الخامسة إلى الهدم من الداخل على شكل تشريعات وتحولات اقتصادية بنيوية أفضت بالتالي إلى انسحاب الدولة نحو مقرّاتها وتقلّص سيادتها ونفوذها إلى حدّ التحوّل إلى جهاز جباية. لقد سيطرت الشركات الأخطبوط على المجتمعات وحلّت فيها محلّ الدولة. كل هذه العمليات أفضت في نهاية المطاف إلى ضعف الدولة في مستويات عدة، أهمها السيادة والقدرة على التحكّم بالاقتصاد والسوق والموارد المادية والطبيعية (الدول تتسابق على التنازل عن كنوز وموارد طبيعية فيها لمصلحة شركات عابرة للقارات بحجّة تحقيق النمو ـ حركة مناهضة تماماً لما شهدناه طيلة النصف الأول من القرن العشرين (وبعده) حينما عمدت الدول إلى التأميم لتحقيق النمو). وهو ضعف تسارع ليتسارع معه انقضاض العولمة ـ الشركات والرأسمال والمؤسسات المالية ـ على تركة الدولة. كأن النظام المعولم أراد أن يرثها بقدر ما يستطيع. وهو الحاصل. إلى هنا قصّة العولمة هذا المخلوق الاجتماعي الذي بلغ ذروته. سيرورة تدفع الدول إلى التأقلم والانكماش في مواردها وسيادتها وديموقراطيتها فتسلم وتعيش وإن في حالة من الوهن والضعف. ضعف، أحدثته قوى الضغط الوافدة من خارجها استقدم عليها ضغطاً من داخلها، حيث كان هذا الداخل مرجلاً يغلي. ضغط نكص عنها عودة إلى ما هو أدنى منها من عصبيات وولاءات في المرحلة الأولى وابتعد عنها في المرحلة الثانية إلى حدّ العودة إلى إحياء فكرة الله والسعي إلى استعادتها نظاماً بديلاً للدولة المُحرجة والمرتبكة. كأن هذه القوى أحسّت بإخفاق مشروع الدولة عربياً على الأقلّ فأشعلت من هذا الإخفاق فكرة الخلافة كتجسيد لفكرة الله المقدّسة وهي أشمل وأعمّ لتحلّ مكان الدولة. القوى الدينية الإسلامية هي رأس الحربة في هذا السعي للعودة إلى ما قبل الدولة ـ إلى فكرة الله المُفترض بوصفها فكرة تتجاوز الدولة نحو كيان جديد ـ دار الإسلام أو الخلافة. ومن هنا، فإن هذه القوى كما تختزلها «داعش» تنقض على الدولة مما قبلها في حركة معكوسة لانقضاض العولمة على الدولة مما بعدها. وبهذا المعنى تجد «داعش» نفسها في صراع ليس مع الدولة فحسب، بل مع منافستها ـ العولمة ـ على تركة الدولة ومواردها. بمعنى، أن الحاكمية الآلهية كفكرة مثالية يحاول استعادة مكانته مستفيداً من ضعف الدولة الحديثة الحاصل بفعل العولمة. وهذا بالتحديد ما يستنفر العولمة ونظامها ضد «داعش» ليس بصفتهاً إسلاما بقدر ما هي منافس شديد البأس على تركة الدولة ومواردها. بهذا المعنى، يشكّل التحالف ضد «داعش» تحالفاً لحماية الدولة بالصيغة المريحة للعولمة من فكرة الحاكمية التي إذا ما اشتدّت واستحوذت، فإنها تُنذر بذهاب «إنجازاتها» سُدى! من هنا يُمكننا أن نقرأ «داعش» كجزء من تحولات فكرة الدولة وكثمرة «طبيعية» للضربات التي لحقت بهذه الفكرة نتيجة العولمة وماكينتها الهائلة الطاقة. ولأن «داعش» هي اختزال لفكرة «الحالة الطبيعية» النازعة إلى ما قبل الدولة والعقد الاجتماعي، فإنها تشكّل في جوهرها حركة استئناف على العولمة ومفاعيلها ـ كالقاعدة من قبل وبوكو حرام والحركات التكفيرية أو تلك الأقل راديكالية ضمن الإسلام السياسي. ومثل القاعدة و«داعش» قوى أخرى في الشق الغربي من الدولة. فالحركات الانفصالية على خلفيات مختلفة تشكّل وجهاً من وجوه السعي إلى الاستئثار بحصص الأسد من فكرة الدولة وتركتها. ويظلّ هناك فارق بين سعي بالاستفتاء الشعبي وآخر بالخناجر والإتجار بالنساء والجواري. بمعنى أن الدولة القومية الغربية على تحولاتها أفلحت في الجتْمعة وفي إكساب المواطنين آليات ومهارات حد الانفصال سلمياً أو بعنف محدود بينما الدولة الشرقية والعربية تحديداً أخفقت حتى في هذا. وبين هذا وذاك تستعر الحرب بين الشركة المعولمة وبين فكرة الله على الأرض، فيما «الدول» والشعوب تناور بين هذه وتلك مرة كشريك ومرة أخرى كضحية.
مشاركة :