الشارقة: عثمان حسن لن نجد نقاشاً فلسفياً أكثر جدلاً من محاولات تعريف الشعر وتحديد ماهيته، لكنك لن تعرف أمة لم يحفر الشعر في وجدانها تاريخاً من سحره، لا يمحى، كما لا تكاد تجد من إبداع البشر إنتاجاً أعمق أثراً، ولا أعذب تلقياً من هذا الشيء المسمى «الشعر».هو روح الأمة، لأنها بغيره أرض موات من دفق العاطفة وتحليق الخيال، وهو عقل الحكمة حين تتجلى بزينة الكلام وترنيمة الحرف، هكذا يبرز الشعر «يوما عالمياً» تختاره «اليونيسكو» عام 1999، بهدف تعزيز القراءة والكتابة ونشر الشعر في جميع أنحاء العالم، وهكذا يحتفل به العالم، ليجدد اعترافه به سيدا متوجا على الحرف وسجادة الكلام، وهذا احتفال يضيء فراغ العالم، وبلادة العالم، ورتابة العالم، ليشعل الذاكرة والروح والوجدان.. الشعر هاجس يعبر عن روح الجماعة، وينطق بأسباب وجودها، ويخلد مآثرها، ويكتب في أول السطر ملحمة كونية تمجد الإنسان، وتؤكد رسالته وحاجاته.يا لهذا الشعر، سيد الكلام، ابن اللحظة والأمس، «ديوان عربي» يسطع حكمة وشموخا وكبرياء، و يا لهذا الشعر في جبهة العالم، رؤية عناصر وأصوات وطبيعة وخيال محلق وباذخ في تأمل العالم.ألم يكن أبو الطيب المتنبي (915م - 965م) أعظم شعراء العرب، صاحب مكانة رفيعة في الوجدان العربي، ألم ينل حظوة ومنزلة، سجلته كأعجوبة عصر، وحكيم زمانه، وصاحب كبرياء وطموح يعتز بعروبته، فكان مفخرة أدبية، بما ابتكره من معان وأحاسيس، وبما امتلكه من لغة وجمال وعذوبة.الفترة التي عاشها المتنبي، كرسته شاعرا كبيرا، لما عكسته قصائده من صور ومضامين صادقة، وما امتاز به من رصانة، وقوة، وجزالة، وأسلوب فريد، أبهر من سمعه وتمعن في دلالات ما يكتب.هو المتنبي صاحب الأبيات المجلجلة، لنتأمله يقول:وكاتمُ الحب يوم البَينِ مُنهَتِكٌوصاحب الدّمعِ لا تخفى سرائرهُ***عش عزيزاً أو مت وأنت كريمبين طعن القنا وخفق البنودفرؤوس الرماح أذهب للغيظوأشفى لغل صدر الحقود***وإذا أتتك مذمتي من ناقصفهي الشهادة لي بأني كامل***ومن نكد الدنيا على الحر أن يرىعدواً له ما من صداقته بد***ما كل ما يتمنى المرء يدركهتجري الرياح بما لا تشتهي السفن***فمن كان فوق محل الشمس موضعهفليس يرفعه شيء ولا يضع.ربما تكمن قوة الشعر، في صعوبة الاتفاق على تعريفه، منذ أفلاطون وأرسطو، وإذا، توقفنا عند محطة مهمة، في تاريخ الأدب الإنجليزي، يبرز الشعر ابن الطبيعة والخيال، وأثرهما في ولادة الشعر، كما يصفه الشاعر الإنجليزي «وليام وردزورث» حين يقول: «الشعر تدفق طبيعي للمشاعر القوية»، هو إذاً تعبير عن لهفة وحنين ومواقف انفعالية ترافق مشاعر هادئة وصاخبة في الوجدان البشري، وهو ملكة لتخيل الأشياء والتماهي مع سطوعها في ذهن المبدع، فتحفز روحه الطامحة إلى التوق، وملامسة الرحيق في كل ما يراه ويحسه الشاعر. انتشرت الثقافة الإنجليزية من خلال شاعرها الكبير الملهم «شكسبير» وبما كتبه من مسرح أيضا، فأقواله وأشعاره التي ترن في ذاكرة العالم، لم تمح حتى اللحظة. قال رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشرشل: «لو خيرونا بين التخلي عن كل مستعمراتنا وقصائد شكسبير، لاحتفظنا بما تركه شكسبير».الشعر قوة خلاقة، توقفت عند أسماء لامعة في التجربة الفرنسية، فأبهرت الرؤساء، جاك شيراك قال: «نحن رؤساء الجمهوريات عابرون زائلون، على عكس الكتّاب والشعراء والمفكرين الكبار. بعد عشرين سنة لن يبقى لنا اسم؛ ما عدا ديغول.. اقرؤوا مذكراته. أسألكم: من يعرف اسم ملك فرنسا في عهد شارل بودلير؟».وما زالت ذاكرة الشعر في فرنسا حاضرة في مناسباتها الوطنية والقومية، تذكر بعظمة مبدعيها الشعر وانحيازهم لقوة الكلمة.يقول رسول حمزاتوف شاعر داغستان الكبير واصفا قريته تسادا «هذه القرية الداغستانية الصغيرة أروع من البندقية أو القاهرة أو كالكوتا؟ وهل الفتاة الآفارية التي تسير في الطريق الجبلي الضيق، وهي تحمل حزمة حطب أروع من السكندنافية المشيقة؟، أي تسادا! ها أنا أهيم في حقولك، وندى الصباح البارد يغسل قدمي المتعبتين، ثم لا أغسل وجهي بمياه السواقي الجبلية، بل بماء الينابيع. يقال: إذا أردت أن تشرب، فاشرب من العين، ويقال أيضاً: ووالدي كان يردد هذا: يمكن للرجل أن يرجع في حالتين: ليشرب من العين، وليقطف زهرة، وأنت عيني، يا تسادا، ها أنا ذا أركع أمامك وأنهل من ينابيعك، فلا أرتوي»يا لهذا الشعر الذي يساقط كقطرات ندى، فتوقظ الروح الجمعية، وتبشر برونق الشعر، وصفاء الكلمة التي تحفز في متلقيها، رقة الشعور والبوح والحب والانتماء.الكسندر بوشكين، شاعر روسيا العظيم، قال يوما: «وطويلا سيظل قومي يحبونني / فقد هززت بقيثارتي المشاعر الخيرَة / وتغنيتُ ممجداً الحرية في عصري العاتي / وناديتُ بالرحمة على المقهورين.وبوشكين كمن سبقوه في تاريخ الشعر العالمي ممن أثروا في شعوبهم، فخلدوا، بما كتبوه حتى الكاتب الروسي غوغول وصفه يوما «عندما يذكر اسم بوشكين، تتألق في الذهن الفكرة عن شاعر روسي على نطاق الأمة كلها، إن بوشكين ظاهرة فذة، ولربما، الظاهرة الوحيدة للنفسية الروسية، وفيه تجلت الطبيعة الروسية، والروح الروسية، واللغة الروسية، والخلق الروسي في تلك الدرجة من النقاء، والجمال المصفى على عدسة بصرية بارزة».في يومه العالمي، هذه راية الشعر، تنتظم من خلفها صفوف الكلام، وتمضي بيتا بيتا، حتى أقصى مدارج البيان.
مشاركة :