محمد الأسعدبالحرفين «لا»، يدخل الصغير عالم الحرية، يخطو خطواته الأولى، يكرّر الحرفين، فتبدو هذه اللا.. رفضاً عقلانياً أحياناً، ورفضاً غير عقلاني في أحيان أخرى. ويصل به دال الرفض هذا إلى حد شق طرقات وافتتاح سماوات جديدة ذهنياً وحياتياً. شهدتُ مرة أباً يجادل صغيره، ويحاول منعه من الإفلات، بالقول: «الناس لايطيرون.. ولكنهم يستطيعون أن يقفزوا»، فيرد الصغير صاحب فكرة الطيران: «سأقفزُ إذاً، وأختبئ في السماء!»لم يكن هذا الجدال الأول من نوعه، ولن يكون الأخير، فحيثما وجدت الطفولة سيكون بجوارها ما نسميه المعقول والواقعي وسن النضج، وحيثما وقفت هذه الكوابح، جاورتها الطفولة واللامعقول واللاواقعي وغير المطبوخ جيداً. كل شيء سيبدو ممكناً. ولم لا؟ مادام التخيل ممكناً في النفس والعالم، وإحداث هذه القفزة وتجاوز الحد بين المعقول واللامعقول. أليس هذا هو الشعر في أعم تصوراته؟ حاول الأب في جداله، مثلما يحاول كل ما يرمز إلى السلطة الأبوية، التأكيد على صلابة صورة عالم الواقع في ذهن الطفل؛ الانفصال بين الأشياء، بين الممكن وغير الممكن. ووافق الطفل، بضربة واحدة كأنه يستلهم صورة ما، على أن البشر لا يطيرون، ولكن إذا كانوا يستطيعون القفز، فلماذا لا يقفزون إلى السماء؟ ولماذا لايختبئون هناك أيضاً، كما في أي مكان آخر؟ أي أنه أصرّ على أن الطيران ممكن وإن اتخذ شكلاً مختلفاً. الطفل هنا يوافق، ولكنه يتجاوز. فيجمع بين العنصرين، الواقعي والمتخيل، بممارسة التخييل. ومرة أخرى؛ أليس هذا هو الشعر؟في مجموعة شعرية ضمت أشعارَ صغارٍ، كتبت «كريستين» ذات ال12 ربيعاً ما ترجمته: يغني كل الأطفال/ في الطرقات الحزينة/ ينثرون فيها البهجة/بصراخهم وألعابهم/ثم يذهبون/ تاركين طفولتهم/ على الطرقات المبتلة/ نحو أعمارهم النامية/ ولا يعودون أبداً/ لرؤية طفولتهم.وهكذا، فإن ما كان ليس مجرد ذكرى، أو كلمات، بل هو وجود حيّ يظل وراءنا في الماضي، نتركه هناك، لانعود إليه. هذا هو أكثر ما يثير ويؤثر في هذه السطور التي توافق على أن كل شيء يرحل، إلا أنها ترسل إلى الذهن سؤالاً طفولياً؛ لماذا لايعود أحد ليرى ما تركه وراءه؟ هنالك تأكيد على أن العودة أمر محال، على رغم أن الغناء والطرقات والبهجة والألعاب والصراخ، وكل هذا، «كان» يوماً، ونشعر حسياً بكونه «كان» يوماً. في كلا الحالين؛ سواء كان تخيل الطفولة ماثلة، على هيئة أشياء مادية مجسدة، أو إمكانية أن يقفز الصغير إلى السماء ويجعلها مكاناً للاختباء، فإن خيال الطفل يمارس الشعر للمرة الثالثة.هذا المدخل نختاره للحديث عن شيء نميزه، أو نقلّمه بالعربية الفصحى، في الشعر، أو نفتقده فيه. لأن له صلة بما يسمى الأصالة أو التلقائية، تلك التي جعلت شاعراً عربياً يسمع تعبيراً من تعابير طفله الصغير، فيقفز صائحاً: «قال ابني الشعر ورب الكعبة». في إشارة إلى قول هذا الصغير إن ما لسعه كان أشبه بمن «يرتدي بردي حبرة». تصور بالغ البساطة وصف فيه الصغير نحلة، فألبسها رداءً يمانياً مخططاً. الأصالة والتلقائية، من أكثر مميزات شعر الأطفال أهمية. واقتضى تثبيت هاتين الصفتين من أستاذ بريطاني شهوراً لكسر حدة التصورات المسبقة لدى تلاميذه، ثم إطلاق السلوك والفكر التلقائيين كي يفكر ويسلك الأطفال بمقتضى «شخصياتهم». كتب هذا الأستاذ البريطاني، واسمه «إريك بولتون»، أنه واجه في مراحل الدراسة المتوسطة مشكلتين؛ أن الأطفال يعتقدون أن الشعر لابد أن يكون موزوناً ومقفى، وتسليمهم بأن موضوع الشعر كلّ ماهو عاطفي وجميل. وليتقدم في مضمار تعليم ما هو الشعر، رأى أن من الضروري تحطيم هذين المعتقدين؛ ليس لأنه يريد إبعاد الأطفال عن الموزون والمقفى، بل ليجنبهم وهم أن الأوزان والقوافي هي أهم ما في الشعر. وفي سياق تحليله لهاتين المشكلتين اللتين تواجهان أي أستاذ غير تقليدي، أرجع سبب تمكن الوهم من الصغار مبكراً إلى الكبار، إلى الشعر الرث الذي يكتبه كبار، ويكثر في كتب الأطفال. هو حديث القفزة مرة أخرى. الكبار الذي يكتبون للصغار لايتجاوزون حديث ذلك الأب الذي يريد من طفله أن يتوقف عن الحلم بالطيران، لا لسبب إلا لأن الإنسان لا يطير.. ولكنه يقفز فقط. ولكن الطفل بتلقائيته لا يرى في القفز إلا إمكانية واحدة، ويبني عليها ماهو أهم؛ تحقيق الحلم بالطيران ولو مداورة. أبعد من هذا، من تأثير الكبار وأوهامهم عن طبيعة كوكب الطفولة، نجد بين أيدينا هذه السطور لطفلة في الحادية عشرة من عمرها: أقحوانة وحنّونة وزهرة عباد الشمس/ ثلاث زهرات/ جاء طفلان ذات يوم/ قطف أحدهما الأقحوانة/ وقطف الآخر الحنّونة/ وظلت زهرة عباد الشمس وحيدة/ لم تقل شيئاً/ إلى أن جاء شيخ رث الثياب/ قطفها، وحملها معه/أحسّ بالراحة/ وتمنى لو ظلت معه طوال حياته/ إلا أنها ماتت ذات يوم/ لم تبق للشيخ سوى ذكرى جميلة/ عن زهرة عباد الشمس.هنا، لا مداورة، فهذه هي «طبيعة الأشياء» كما يمكن أن يقول أي قاص لأسطورة هندية أو إفريقية أو عربية، موضوعها أصل الشمس أو القمر أو النجوم، أو أي كائن. بين لغة الأسطورة ولغة الشعر تشابه مثير، مثلما هو التشابه بين لغة الأطفال ولغة الأسطورة. ويلح سؤال: لماذا تتفوق لغة الأطفال على لغة الكبار في عين فنان مثل بيكاسو، فيقول إن أقصى طموحه كان أن يتمكن من الرسم كما يرسم الطفل. وبنوع من التأمل المحايد نجد عدداً كبيراً من قصائد الأطفال يمتلك «شخصية» و«خصوصية» يعجز الشعراء الكبار عن محاكاتها، وأن عدداً كبيراً منها يحقق شروط «الشعرية» بكل بساطة. أليس الجميل هو البسيط والتلقائي؟ إن حياة تفتقر إلى الجمال، لهي حياة تفتقر إلى البساطة والتلقائية. وكذلك هو أمر العلاقات والتصورات، ولكن كثيراً ما تنسب هذه البساطة إلى «السذاجة» أو «انعدام النضج»، مع أن هذين هما أكثر الجوانب جذباً في «الشعرية». لايستطيع الشاعر الاستمرار شاعراً من دون العودة إلى الطرقات التي وصفتها «كريستين»، أو الشعور بألم عدم القدرة على العودة. لايستطيع الاستمرار إن اقتنع أن البشر يقفزون فقط، ولا يستطيعون العلو والاختباء في السماء. لا سرّ في الأمر. قد يتخذ عالم الكبار، بموانعه وحواجزه، الاستهجان أسلوباً في التعبير، أو تسخيف أصالة وتلقائية الطفل، مع تقديم بدائل ملائمة وجاهزة. وعندما يكبر الطفل إلى غير عودة، يكرّر آثار اللغة العامة، لغة نظام يتضمن تركيب دلالات الكلام وصورها، والأهم يكرر «رؤية» إلى العالم. حين يقول الأب لطفله إن البشر لا يطيرون، بل يقفزون فقط، يبدأ بهذا القول أو الخطوات على طريق برمجة «رؤيا» طفله، وحين يردّ الطفل قائلاً «.. حسناً.. سأقفز إذاً، وأختبئ في السماء»، يكون قد أعلن العصيان والتمرد على البرمجة.القليلون يدركون أن ارتياحهم لعدد كبير من منتجات «الشعرية»، وخاصة ما جرى منها في مجرى التقليد، نابع من أنها لا تتخارج عن البرنامج العام الذي خضعوا له منذ نشأتهم، أين؟، ربما على مقاعد الدرس في مواجهة أستاذ لا يشبه ذلك الأستاذ الإنجليزي، ربما في مواجهة التلفاز الذي تعتبره الذهنية العامة حامل الكلمة الفصل، ربما أمام أوراق صحيفة ينشر بعضهم هراءً مجانياً في ما يتعلق بالشعر والشعراء. المناخ العام هو أكثر العناصر تأثيراً في ترسيخ «البرنامج»، ولمثل هذا المناخ نحاول تكييف أطفالنا، فنمهد نتوءاتهم، ونشذب الغصون التي قد تطلع على غير توقع، أو نقطع جذوراً ونحن مؤمنون أننا على صواب. الشعر بهذا المعنى عصيان إذاً، عصيان للبرمجة. أحياناً نتقبل هذا العصيان من الأطفال بحسبانهم «مجرد أطفال».. ولكن المسألة مختلفة بالنسبة للكبار. الأرجح أن المناخ العام ليس بحاجة لقمع الشعراء «الناضجين» لأنهم مقموعون أصلاً. ولم يعودوا، منذ زمن طويل يفكرون بالقفز حتى، ناهيك عن الاختباء في السماء. الأقرب هو القفز إلى منصة، أو تصدر واجهة. لم يعودوا يفكرون بالعودة وإلقاء نظرة على تلك الطرقات التي تركوا فيها طفولتهم، بعد أن انفتحت أمامهم طرقات أكثر نفعاً وجدوى؛ طرق ما تقود إلى «مصرف» مثلاً، أو إلى «التاريخ» وصناعه كما يقال. الطفل لا يطمح إلى صناعة تاريخ ولا ارتياد مصرف، بل طموحه أن يصنع نفسه.
مشاركة :