إبداعات البوابة|"عندما طافت الأشباه والنظائر" قصة لـ"محمود تهامي"

  • 4/20/2018
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

أتذكرين يوم تلصصنا سويا على جنون العالم من شرفة مظلمة فى الطوابق العالية؟ هذه الدنيا كانت تشبه الدوائر الحلزونية، لذلك نلتقى الرفاق فى الانحناءات المفاجئة ونصطنع الدهشة، أن ندرك حجم الغفلة التى سقطنا فيها، ماذا لو بحثت عن حاجتك المفقودة فى الشوارع المتشابهة والشرفات العالية؟ أكان واجبًا أن ندقق فى لون النافذة الفريدة حتى لا تضيع وسط كراكيب الزمان؟! من وقتها كانت الشرفة لعنتي.. راقبت الشرفات المتكئة فوق العمارات الطويلة، وتساءلت عن مدى توفيقى فى الوصول إليها، أن تملك مواصفات قليلة عن شرفة تائهة فى شارع طويل تلك هى المأساة، يأست فى البداية من الوصول إليها، ولكنى حاولت استعادة تفاصيل الكلمات القليلة التى تحتفظ بها ذاكرتى منذ وقت طويل. قالت إنها تحافظ على طقوسها الخاصة التى اعتادت عليها منذ الانتظام فى العمل الجديد مثل وجبة الإفطار التى تحرص على تناولها، ثم بحثت بإصبعها فى شاشة الموبايل، وأرتنى صورة لشرفة واسعة قالت إنها تتناول بها الإفطار والشاى الصباحي. بصورة آلية قامت ذاكرتى بتجميع التصورات الكاملة عن شكل شرفة من الخارج، أرضيتها خضراء، ولن أتمكن من رؤية الاخضرار، وأنا أبحث فى الشارع، كراسى خشبية مطلية باللون الأحمر، فتحات واسعة فى الدرابزين الخشبي، وأتساءل: أين ذلك المكان الذى تجلس فيه الآن منتظرة مرورى أسفلها محملا بمزيد من الشوق والرغبة؟ هل يضل بصرى فى الطرقات؟ حتما ستكون فى ذاك الصباح الشتوى تقف فى مواجهة الشارع غير عابئة بالبرودة التى تصحب غيارب الشمس، تحرص على أن تلتف أصابع يدها اليسرى على فنجان الشاى الكبير وفى اليد الأخرى سندوتشا ساخرا تستمد منهما الدفء، فكرت أن أعيب تلك العادة التى لا أحبها فى الجمع بين الطعام والشاى مرة واحدة، لكن ثمة أشواقا وبحارا من الكلمات تفتقر للبوح قبل أن نفرغ لتبادل التعليقات السخيفة على العادات اليومية.. كان يجب على أن أتذكر أن هناك شجرة تصل أطرافها الجافة إلا من أوراق قليلة إلى الحافة الخشبية وربما تلمس الكراسى الحمراء، ساعتئذ أستبعد تلك البنايات التى لا تزرع أشجارًا جافة. تخرج فتاة ذات بشرة بيضاء تشبه البشرات التى نعرفها عن بلاد الثلج، تخلصت من دوامة التذكر والتجميع وانطلقت خلفها، تغيرت كثيرا، ربما لا تكون هي، أنا لم أرها منذ مدة طويلة يجب أن أقترب وأتفحصها حتى لا أتسبب فى المضايقات، لقد طاردتنى صورتها طوال السنوات الماضية التى اختفيت فيها عنها، شاهدت على حافة الأرصفة وفى محطات المترو أكثر من أربعين شبهًا، وفى كل مرة تراودنى أفكار الجرأة والتقدم لأفض غلالة تلك المخايلة التى تحطمني. عندما صعدتْ للباص وصعدتُ خلفها، شعرت أنها هزمت كل الأوجاع، تخلصت من يوم طويل مثقل بالشقاء، ألقت حقيبتها على الكرسى المجاور وطوحت جسدها على الآخر، نفخت زفيرا قويا كأنها تطرد آخر ما تبقى من هموم اليوم، أراحت رأسها المتعب من زحام الأشياء الصغيرة والتفاصيل الدقيقة. تتحارب الهواجس بداخلى، نشبت مخاوف عندما جلست خلفها وشممت عطرها الذى ما زال باقيا فى أنفى منذ اللحظات التى قضيناها سويا بالقرب، مما الخوف؟! أنت تملك قناعة كاملة أنها هى وليست شبهًا هذه المرة، لا تحتاج إلا إلى محاولة تنبيهية صغيرة فتتذكر هى كل السنين القديمة التى قضتها برفقتك، ولن تحتاج إلى وقت طويل، فقط يصيبها الذهول وتشهق مثل الصاعقة، نعم، هى تشهق دائما عند الفزع بصوت يرج الأركان، سوف تسألنى عن أسباب غيابي، تفرح لبحثى عنها، تستعيد بروح طفولية تلك المرة التى قطعنا فيها طريقا نشرب عصائر باردة معلبة، نغمز كتفينا كلما اقتربنا ثم نكررها بإثارة أكبر، وتزعم أنها سبقتنى حين جرينا فوق السلالم المتحركة عكس الاتجاه وأستسلم لذلك، نجلس على أقرب المقاعد الرخامية الموجودة فى الميدان، تتحدث عن شاطئ بحر الإسكندرية حين لعبنا عليه وتعلقت رماله بنا، حين نفضت شعرها المبتل، حين طلبت أن نلتقط صورا ونحن نتبادل القبلات داخل مياه البحر، حين مارسنا عاطفتنا على طبيعتها لأول مرة فوق السلالم وفى مداخل العمارات وفى المصاعد الخالية من كاميرات المراقبة، فى غرفة نوم صديق أهدانا شقته ليلة. حين نصحو من غفلتنا فنجد المكان خاليا، والفراغ يسرى إلينا، والأحلام تختلط بالأوهام فتتجسد الأشباه والنظائر. قصة قصيرة لـ محمود عبدالله تهامى إهداء إلى محمد خلف

مشاركة :