فتاة شوارع السابعة.. لا أتذكر الكثير.. قرية صغيرة من قرى البحيرة.. الفقر يحيط بكل شىء.. أجلس فى تلك الدار الصغيرة مع أمى وشقيقاتي.. ثلاث فتيات نحن.. أنا أكبرهن.. لا أذكر عن ذلك الرجل الذى يصرّ أنه أبى سوى عنفه المبالغ فيه.. كان وجوده فى المنزل كالجحيم.. موجة من الصراخ والعنف لأى شىء ولأتفه الأسباب.. دائم الاتهام والسباب لأمي.. أرق وصف منحه إياها كان يؤرق مضجعي، لم أدرك معانى تلك الكلمات إلا بعد سنوات طويلة، ولكن صداها ظل يتردد كلما سمعتها ليخترق الماضى ويعيد إلىّ تلك الذكريات. لم تكن إحدانا مقربة إليه.. كنا نتشارك جميعا الحالة نفسها من العنف والازدراء.. حتى شقيقتى الصغرى التى لم تكن قد أكملت عامها الثالث كان لها النصيب نفسه.. لم أكن فى تلك المرحلة أعلم معانى كلمات كثيرة مثل «الحب» أو «الدفء» أو «الحنان»، فأمى بدورها لم تجد متنفسًا لحالة القهر سوى أن تقوم بمزيد من القهر.. كانت تنفث غضبها فينا.. ترانا عاملًا كبيرًا من عوامل شقائها.. البيت والبنات والتربية.. الجلد والتحمل من أجل بقاء الأطفال.. فلولانا لكانت قد تركته منذ سنوات.. وهذه الجملة ظلت ترددها بإصرار.. ربما حتى الآن. بالطبع فلاحة جاهلة مثلها لم تكن تعلم معان كثيرة مثل «الصحة النفسية للطفل» أو «أهمية الترابط الأسرى لدى الأطفال»، ولو علمتها لتشدقت بها لإظهار كم هى مضحية من أجل بناتها.. وهو ما سيتضح فيما بعد أنه كذبة كبيرة. الحادية عشرة. انفصل والداى منذ عام.. لم تتحمل أمى- ونحن أيضًا- ذلك المعتقل الذى كنا نحيا فيه.. كذلك كان هناك عم «صلاح» الجار الطيب الذى يظهر فى بداية القصة ويكون نقطة تحول كبيرة فيها.. لست أعلم حتى الآن ما عمله الحقيقي.. كل ما أذكره هو أنه تقرب من أمى حتى تزوجته.. باع بيته وجاء ليسكن معنا.. اعتقدت فى البداية أنه سيحل محل أبي.. أمى كذلك كانت تتوسم فيه خيرًا.. فمن المجنون وسط كل هذا الفقر الذى يقبل أن يتزوج مطلقة ترعى ثلاث إناث.. كان فى البداية بطلًا قوميًا داخل البيت. ولكن «عم صلاح» كان له رأى آخر.. «بنتك كبرت.. واحنا على قد حالنا.. لازم البت تشتغل.. منها تِخف المصاريف ومنها تجيب لنا قرشين». كان واضحًا بعد أن أتمت الزيجة اليوم الأربعين. وهكذا بدأت حياة ما بعد القرية. أخذنى «عم صلاح» من يدى إلى الموقف.. كانت أول مرة أركب الميكروباص.. كعادة القرويين لم تبتعد عيناى عن مشاهدة الطريق من النافذة.. كنت منبهرة كطفلة وفلاحة كما ينبغى أن يكون.. كذلك كنت فى حالة من الحماسة بعد كلمات «عم صلاح» أننى «هاعيش فى مصر» و«هلبس بنطلون وبلوزة» بدلًا من «الجلابية».. طبعا تعلمون أنى عملت كخادمة.. فى البداية لم يكن الفرق واضحًا لديّ، فهنا وهناك أقوم بأعمال المنزل.. كنت سعيدة بالملابس الجديدة.. كنت أنتظر بفارغ الصبر أن تطلب منى سيدة المنزل الذهاب للبقال- أو السوبر ماركت كما تعلمت فيما بعد- لشراء أى شىء ولو كان تافهًا.. كان الشارع بالنسبة لى عالما ساحرا أرغب فى خوض تفاصيله. الخامسة عشرة.. حادثة الاعتداء الأولى.. تفاصيل عتيقة ومملة.. بالطبع شاهدها الجميع فى عشرات الأفلام العربية القديمة.. السيد الثرى صاحب المنزل الذى يشعر بالملل فى وجود زوجة مهملة بالنسبة له رغم أنها زوجته الثانية، وبالطبع لم يجد أمامه سوى الخادمة الشابة الصغيرة التى -كالعادة- لن تستطيع المقاومة وستخاف على المبلغ الشهرى الذى يرسله لأهلها دون أن تنال منه مليمًا. فيلم قديم.. ربما.. وما أدراكم أن الأفلام ليس لها أساس واقعي. كان سيدى السابق حيوانًا متخفيًا فى حلة أنيقة ورابطة عنق، كان لا يتركنى وشأنى كلما أتى إلى المنزل مرتين اسبوعيًا. فيما بعد عرفت مصطلحًا اسمه «انتهاك الآدمية».. كان هو التعبير الأدق لوصف حالتي. لشهور طويلة كنت أتضرع لـ«عم صلاح» الذى كان يأتى مرة كل شهر ليقبض أجري، لم يلاحظ أن زيادة الأجر إنما هى تعبير رخيص عن إهانتي. وأستطيع الجزم أنه لو علم- وبالتأكيد كان يعلم بشكل ما- لما أحدث الأمر لديه فارقا، فالفارق الوحيد لديه كان عدد الجنيهات التى يحصل عليها كل شهر. وكان قرارى بالهروب.. استيقظوا فلم يجدوني.. هكذا فعلتها ببساطة، انتظرت حتى رحل سيدى السابق فأسرعت ولملمت أشيائى وبعض الجنيهات التى اختلستها من «عم صلاح» طيلة فترة عملى وتركت المنزل بلا رجعة.. ودعت ذلك العالم إلى عالم آخر.. الشارع. الثامنة عشرة.. ثلاث سنوات مضت على وجودى فى الشارع.. قمت بعشرات الأعمال.. اكتسبت مئات الخبرات.. عملت كل عمل يمكن أن تحصل عليه شابة بلا تعليم حقيقي.. بائعة.. جليسة مسنين وأطفال.. نادلة فى مطعم.. عدة مرات اضطررت للمبيت فى الشارع.. حاولت كثيرًا أن أجد مأوى مناسبًا لحالتى الاقتصادية، إلا أن هذه الحالة كانت تنتقل من سيئ لأسوأ.. حتى وجدتني.. لا أقدر أن أقول إنى وجدتها، فمثلها بالفعل كان ما يشبه هدية السماء لى فى تلك الفترة.. سيدة عجوز تكاد تقارب السبعين.. كادت تسقط وهى تعبر الشارع، أسرعت إليها والتقطتها غير مبالية بعلب المناديل التى كنت أبيعها فى الشارع فى ذلك اليوم، لم تنظر لي.. وجدتها تمسك بيدى بشدة وتصحبنى معها إلى حيث تنتظر سيارتها، رآنا السائق فأسرع ليبعدنى ظنا منه أنى أحاول استعطافها؛ فنهرته بشدة وطلبت منى أن أذهب معها. كانت ملامحها تنطق بالطيبة.. «الحاجة كوثر» أو «كوثر هانم» كما يناديها الجميع إلا أنا فيما بعد.. سيدة ثرية للغاية تعيش فى فيلا فاخرة فى السادس من أكتوبر، وليس لها فى الحياة سوى ابنتها وحفيدتها. جلسنا معًا.. حكيت لها حياتى بالتفصيل الممل.. لم تكذّبنى فى حرف واحد.. عرضت عليّ أن أعمل معها جليسة بشرط أن تقوم بإلحاقى بمدرسة قريبة لأكمل تعليمي، بالطبع لم أرفض وحاولت تقبيل يدها إلا أنها رفضت، ظلت ساعة كاملة تشرح لى أسلوب وطبيعة حياتى الجديدة، وكان لها شرط واحد «أنسى كل حاجة.. بس لو فكرتى يوم ترجعى الشارع ما تفكريش ترجعى هنا تانى أبدًا».. وبالطبع وافقت.. تعليق أرهقتنى هذه الحكاية كثيرًا.. ليس فقط لأن بطلتها كانت تروى قصتها بشكل غير منتظم وبأسلوب واقعى أبعد ما يكون عن الأدب.. ولكن كذلك لأن القصة وصاحبتها احتلا مكانة كبيرة لديّ، ماجعلنى أغوص فى عالمها الصغير الذى فتح إدراكى على فئة كبيرة هى نوع خاص جدًا من أطفال الشوارع.. نوع يحاول تحقيق ذاته بعد أن تشبع بحلم كبير لم يدركه منذ المرة الأولى.. وإنما تسرب الحلم إلى داخلهم جزءًا بعد الآخر.. إلى أن وصل إلى ما عرفناه معًا.
مشاركة :