تترك القطار الذي أقلك من مدينتك إلى محطة أوترخت وراءك وتبدأ بالبحث عن الباص الذي سيقلك من المحطة إلى مكتب منظمة (اليو آ أف) التي تدعم الوافدين الجدد من اللاجئين الراغبين بإكمال دراستهم في هولندا. الطقس ينقلب كليا عما كان عليه صباحا. تختبئ في الباص من المطر الذي راح يعصف في سماء المدينة وتجلس لتفكر في المقابلة التي تنتظرك. امتحانات طويلة ومراحل عدة كان عليك اجتيازها. على مدى سنة كاملة كان عليك أن تجتاز ثلاثة مستويات في اللغة الهولندية وتبدأ في المستوى الرابع لتستطيع أن تقدم طلب الدعم من هذه المنظمة. وما أن تتجرأ على تقديم الطلب حتى تدخل في دوامة ملء أوراق وبيانات وامتحانات ومقابلات هاتفية وشفهية من كل نوع تختبر مقدرتك اللغوية واستعداداتك الفطرية، لكنها في الأساس تختبر صبرك. اختبار صبرك ليس حكرا على هذه الخطوة ولا بجديد عليك. كل ما هنا يمتحنك في هذا المقرر! من البلدية إلى مدرسة تعلم اللغة إلى كل تفاصيل علاقاتك التي تحاول أن تنميها وتبني عليها في أعمالك التطوعية أو مع الوسط الصحفي الهولندي الذي تسعى بعناء لأن تجد لنفسك مكانا فيه ولربما فرصة عمل في أسرع وقت ممكن. حين تلح وتبحث وتتابع الكل يبدأ بالمساعدة، لكن على هواه وبما يناسبه. هذا منطقي جداً! لكنه ينهكك. هل عليك أن تبذل جهدك في اللغة ومتابعتها والكتابة وتطويرها، أم أن تلاحق هذا وذاك ليساعدك هنا وليفتح لك درباً محتملاً إلى هناك؟ أحياناً تحسّ أنّك في غابة، تلاحق مستقبلك هنا وكأنه سراب يلوح خلف أشجار قريبة ويختفي ما أن تقترب منه. في هذه الغابة تقع كل يوم في فخ جديد وتتعلم منه ومن جروحك، تسعد لأنك نجوت وتعلمت، لكن شيئاً ما في داخلك ينطفئ. كثير من الهولنديين ينصحونك بأن تخفف هذا اللهاث كله؛ فلا يزال لديك وقت كاف لتعلم اللغة وتقديم امتحاناتك وفق القانون الهولندي، ثم أنك فقط وصلت إلى هنا قبل سنتين وبضعة أشهر وقد أنجزت الكثير! لكن أنت لا تستطيع! سوريون كثر لا يستطيعون. ثم أنه يكفي أنك أضعت ما يقارب السنة والنصف خلال إقامتك في مخيم اللاجئين لاستكمال إجراءاتك وحصولك على منزل لتبدأ عجلة حياتك هنا بالدوران. وسنين الحرب التي ضاعت، وقبلها كل ذلك الوقت الذي عشته في بلادك خانعاً وخائفاً من سلطات شتى وغير قادر على مراكمة إنجاز ذي معنى ألا يكفي ضياعه؟! تحسّ أن الوقت يلاحقك في هذه الغابة/ التحدي، والحرية وكل الفرص التي تحصل عليها هنا شيء ثمين ومذهل، لكنها أيضاً سلاح أما أن تستخدمه كما يجب في وقته أو سوف تخسره مجدداً. ألا يكفي أيضاً كل تلك الخسارات التي راكمتها وراءك حتى وصلت إلى هنا؟! قبل أيام تنصحك إحدى الموظفات في مدرستك وأنت تلح عليها لتساعدك في التسجيل في ماجستير الصحافة لدى إحدى الجامعات قبل أن يفوت الوقت بأن تدرس المستوى الخامس من اللغة على مهل العام المقبل ثم في العام الذي يليه تسجل لدى الجامعة! لوهلة أحسست أن الموظفة آتية من كوكب آخر. أخبرتها أني سجلت لدراسة المستوى الخامس في شكل مكثف في الصيف ويجب أن أبدأ مع الجامعة في الخريف. لا وقت لدي! ترد هي مصدومة بأن هذا غير منطقي وبأننا نحن السوريون نريد كل شيء سريعاً. لم أجبها ولا بحرف واحد. فمن المؤكد أنها لا تعرف شيئاً عن المنطق. أين المنطق في كل ما حصل لنا منذ سبع سنوات حتى اليوم؟ أحد الهولنديين الذين التقيتهم في مدينة أرنهيم قبل أيام وأنت تحتفل هناك بعيد الملك أخبرك بعد أن أثنى على لغتك الهولندية أنه لا يستغربها فقد صادف في عمله خلال السنتين الماضيتين الكثير من السوريين الذين يعملون بدافع وطاقة كبيرين، لا يفهم سببهما فيحاول أن يردهما إلى طبيعة الثقافة السورية. أحد الذين تدربوا لديه استقل قبل أشهر وافتتح شركته الخاصة وهو ناجح جدا الآن في مجاله. طبيعة الشباب السوري المندفع التي تحررت من استبداد النظام الذي كبل طاقات هؤلاء الشباب لعقود هي أحد الأسباب. لكن السبب الأبرز أقول له هو أن وجودنا في هولندا الآن هو لا شيء أقل من فرصة حياة مضافة! لقد نجونا من القصف والغرق، فقط نحن نجونا، آخرون كثيرون لم يفلحوا في النجاة، لذا لنا أن نستغل هذه الفرصة إلى آخرها. ثم أننا نريد الهرب من فكرة بعض الهولنديين عنا بأننا هربنا إلى هنا لنسعد براتب المساعدة الإجتماعية أو لكسب أموال الهولنديين الأغنياء. هذه الفكرة تكسر كل شيء فينا. نحن لم نهرب من المجاعة، فقط من الموت واحتماله. لا أكثر ولا أقل! هذه الأفكار كلها وغيرها عن مدى صوابية كل خطواتك هنا وما تنوي استكماله بعد ليساعدك على أن يعطي حريتك ومكانك الآمن الذي حصلت عليهما معناهما الكامل تضج في رأسك في الطريق إلى مقابلة موظفة (اليو آ أف) وفي انتظارها. تحاول أن توقف سيل الأفكار هذه كلها في رأسك قبل أن تأتي الموظفة. لا تريد أن تزيد أسباب توترك. طيلة اللقاء تتحدث وتحاور بأريحية كاملة، الموظفة تؤكد لك رغبة المنظمة في دعمك، لكن أنا فقط من يجب أن يبحث ويحدد الخيارات. هم لا يملكون أجوبة على أسئلتي عن صوابية هذا الخيار أو ذاك. تخرج من المقابلة مرتاحاً، لأول مرة تشعر بأن تعبك في اللغة الهولندية لم يذهب سدى، لأول مرة ترحم نفسك قليلاً وتصفق لها. تعبت هذه النفس وأنت تحاسبها بصرامة كل يوم منذ بدأت رحلتك هنا! في طريق عودتك ترسل أسئلتك إلى أصدقاء صحفيين هولنديين، لربما هنا أو هناك يظهر شيء أوضح. فأهم ما تعلمته في هولندا أنه لربما يختبئ في تلك الزاوية أو تحت هذه الطاولة شيئاً، ما سيساعدك جداً وسوف يشكل فرقاً كبيراً في كل ما تفعله. لكن إن لم تسعى حقاً إلى إيجاده وأخذه. فلن يقدمه لك أحد ولربما سيفوتك إلى الأبد. هذه هي ثقافة هذه البلاد. طريقنا هنا للاندماج وأخذ فرصنا لربما لا زال طويلاً، لكننا نمشيه وسنصله. الحكومة الهولندية رمتنا في بحر الحرية والدعم وامتحانات الاندماج. لكن نحن وحدنا علينا تعلم السباحة والخروج من الماء لاحقاً وفي فمنا سمكة. لكن ألم نفعل ذلك قبلاً حين نجونا من الحرب ورحلة اللجوء؟ إذاً فلنفعل ذلك مجدداً!
مشاركة :