أجاد الجانب الأمريكي، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية، العزف على أوتار الراديكاليات، وبما أن واشنطن هي الخلف لـ “لندن” السلف، كان من الطبيعي إذن أن ترث أمريكا التعاطي مع جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما يبينه لنا باقتدار الكاتب الأمريكي روبرت دريفوس في عمله الرائد”لعبة الشيطان”، وفيه يوضح كيف استقبل الرئيس الأمريكي دوايت ايزنهاور الشاب المصري سعيد رمضان صهر حسن البنا، للتخطيط من أجل استخدام التيار الأصولي الإسلامي في شرقآاسيا ومنطقة البحر الأبيض المتوسط لوقف الزحف الشيوعي. لم يكن أيزنهاور صاحب الخطة الأصلية، بل الأخوان “دالاس” جون فوستر و آلان فوستر، الأول وزير خارجية أمريكا الذي قدم ما يمكن أن نطلق عليه لاهوت الاحتواء، والثاني الرجل الذي وضع الخطط الاستخباراتية لتنفيذ خطة شقيقه، وكلاهما كانا أبناء قس يتبع المنهج الأصولي اليميني الذي أذكى القرن العشرين وقرننا الحالي بتيار مسيحي أصولي كارثي لا يقل أثره عن القاعدة وداعش. جرت وقائع اللقاء الذي يحدثنا عنه فوستر العام 1954 ومنذ ذلك الوقت والتنسيق ماض قدما بين الدوائر الأمريكية، وبين الجماعات الأصولية، وقد كان الاحتلال السوفيتي لأفغانستان مدخلا متميزا وهدية على طبق من ذهب للتيار الأصولي الإسلاموي. يضيق المسطح عن السرد، غير أنه باختصار غير مخل نشير الى أن هناك في البيت الأبيض وتحديدا “زبيجنيو بريجنسكي” كان من بلور خطة لملاقاة الشيوعيين في أفغانستان قبل أن ينطلقوا الى جهة آبار البترول في الشرق الأوسط، وقد جاءت الخطة عبر مثلث مبتكر هرمه الشباب العربي المتدين، والذي تم اغراقه في الأصولية عبر عقود خلت ليكون أداة طيعة في يد القوى الكبرى ساعة ما تحتاج الى مشعلي النيران، فيما ضلعا المثلث الآخران هما: الأموال العائدة من ريع النفط والتدريب والتسليح العسكري الأمريكي، وبلا شك التزويد المعلوماتي والاستخباراتي لتلك العناصر . في أفغانستان ولدت القاعدة ونشأت وترعرت بعزف غربي مقطوع به، ووجدت كل ما يعينها على النشوء والارتقاء، ولم يدر الذين تبنوا القاعدة أن الثعبان يمكن أن يلدغ صاحبه لأن هذه هي طبيعته، كما أن عدم المقدرة على صرف الجني بعد تحضيره سوف يسبب الازعاج القاتل والخطير للإنسانية برمتها وليس لمن حضَّره. جرت المقادير على هذا النحو، الى أن تنبه الجميع للخطر القائم والقادم في الحادي عشر من سبتمبر، غير أن عدوى الأصولية كانت قد انتشرت لتجيئ عملية غزو العراق فاتحة لتنظيم القاعدة في بلاد العراق والشام، أي النواة الأولى لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وبقية القصة معروفة. كثيرون الذين يعزفون على أوتار الأصوليات الإسلاموية، لكن قليلين الذين يتناولون الجانب الآخر من تلك الأصوليات، أي الجانب الذي تم التلاعب فيه بالمسيحية الغربية، وفيما ولد ثانية تيار اليمين الأصولي المسيحي المخترق، والذي يحمل أفكارا طهرانية مطلقة، بالضبط مثل فكرة الجنة المفقودة أو الفردوس الضائع عند جون ميلتون. اشتد عود التيار الأصولي الأمريكي في ستينيات القرن الماضي، وهو الذي يرتكز أول الأمر وآخره على نبوءات توراتية ينظر اليها على أنها تحتمل تفسيرات وتأويلات متباينة للنصوص، غير أنه وكما في حال الأصوليات الإسلاموية، هكذا الحال أيضا في الأصوليات المسيحية، فقد وجد هناك من يلوي عنق النص ليستخدمه في خدمة المعركة مع الشيطان الأكبر الذي هو الاتحاد السوفيتي وقتها، والتعبير هنا للرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريجان. السؤال المهم: لماذا نعود الى هذا الحديث هذه الأيام؟ يكاد السبب يكون معروفا وغير خاف على أحد، سيما وأن هناك مخاوف من جانبين: الأول: هو ظهور تنظيم إسلاموي أشد فتكا وخطرا من داعش ذاتها، بل وربما يكون نتيجة لتزاوج غير خلاق بين كوادر القاعدة التي لم تطلها أيادي التصفية من جهة، وبين بقايا داعش أو إن شئت الدقة الذين تم تسريبهم من الدواعش بقصد استخدامهم في معارك أخرى قادمة، وقد يكون ما يجري في ليبيا بنوع خاص تحقيقا لمصداقية هذا الكلام الذي نقول به. الثاني: هو تصاعد المد الديني الأصولي المسيحي في الداخل الأمريكي، سيما مع مجيئ الرئيس دونالد ترامب، ولعل قرار نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب الى القدس هدفه الأول هو إرضاء ذلك التيار النافذ الذي صوَّت لترامب وقاده الى البيت الأبيض، وهو رجل العقارات، والذي لا دالة له على العمل السياسي أو حتى على تنظيرات الأصوليات المسيحية. القراءة المتقدمة تأخذنا ولاشك الى حديث مثير آخر هو التلاعب بالأصوليات، وبعضها غير مسيحي وغير إسلامي، مثل الأصولية البوذية لتغيير المشهد الدولي، سيما في آسيا الشرقية، ضمن محاولة غربية مستميتة للحفاظ على قيادة العالم في يد الغرب، ولم يكن حديث داعش ونشأته في العراق وسوريا الا الفصل الأول في الجزء الجديد من مسرحية العبث الأصولية التي تقدم على مسرح العالم منذ قرابة المائة عام.. ماذا عن هذا الجزء الخطير والمثير..؟ الى اللقاء في قراءة قادمة بإذن الله.
مشاركة :