يأتي معيار «دور المتلقي في توجيه صاحب النص»، ضمن معايير التلقي عند الجاحظ، وحول هذا المعيار ينقل الجاحظ قول عمران بن حطَّان: «إنَّ أول خطبة خطبتها عند زياد...، فأُعجب بها زياد، وشهدها عمِّي وأبي.. ثم إني مررت ببعض المجالس فسمعت رجلًا يقول لبعضهم: «هذا الفتى أخطب العرب لو كان في خطبته شيء من القرآن». والملاحظ هنا كيف أنَّ المتلقي قد وجَّه رسالة جمالية لصاحب النص، حيث إنَّ النقص الذي وسَم به السامع خطبته، هو عدم توظيف بعض آي القرآن الكريم في ثناياها، ما أدَّى إلى حرمان الخطيب من بلوغ مرتبة «أخطب العرب»، وهذا يعطينا حزمة من الموشرات الدالة، ترتبط في أغلبها بالمتلقي؛ كبروز الخبرة عند المتلقي والسامع العادي، وهو ما يقدم صورة عن مكوِّنات ما يُسمَّى بأفق التوقع، إضافة إلى عدم الاكتفاء بالتلقي، بالتجاوز إلى الحكم على النص. وقريبًا من هذا، يقول هانز روبرت ياوس: «الأدب ينبغي أن يدرس بوصفه عملية جدل بين الإنتاج والتلقي، فالأدب والفن لا يصبح لهما تاريخ له خاصية السياق إلَّا عندما يتحقق تعاقب الأعمال لا من خلال الذات المنتجة، بل من خلال الذات المستهلكة كذلك، أي من خلال التفاعل بين المؤلف والجمهور». في حين يأتي معيار «تحقيق التلقي» بوصفه أهم من مراعاة معايير الجودة، وفي هذا السياق، يقول الجاحظ: «وأنا أقول: إنَّه ليس في الأرض كلامٌ أمتع، ولا أنفع، ولا آنق، ولا ألذ في الأسماع، ولا أشد اتِّصالًا بالعقول من طول استماع حديث الأعراب الفصحاء، وقد يحتاج إلى السخيف في بعض المواضع، وربما أمتع بأكثر من إمتاع الجزل، وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام، ومُلحة من مُلح الحشوة والطغام تستعمل فيها الإعراب، أو أنْ تتخير لها لفظًا حسنًا، أو أن تجعل لها من فيك مخرجًا سرِّيًّا، فإن ذلك يُفسد الإمتاع بها، ويخرجها من صورتها، ومن الذي أريدت له، ويهذب استطابتهم إيَّاها واستملاحهم لها»، وبذلك المقتبس، جعل الجاحظ المتلقي فوق النص وشروط صياغة القول. ولا يغفل الجاحظ الاهتمام بالحالة النفسيَّة للمتلقي، وفي هذا يقول: «وليس هذا الباب ممَّا يدخل في البيان والتبيين؛ ولكن قد يجري السَّبب فيجري معه بقدر ما يكون تنشيطًا لقارئ الكتاب؛ لأنَّ خروجه من الباب إذا طال لبعض العلم، كان ذلك أروَحَ على قلبه وأزيدَ لنشاطه إن شاء الله». فالجاحظ بهذا يولي المتلقي عناية خاصة من خلال معاني الترويح عليه، ومراعاة حالته النفسية، وهذا ما نراه جليًّا في قوله: «ولكن القصيدة إذا كانت كلها أمثالًا، لم تسرِ ولم تجرِ مجرى النوادر.. ومتى لم يخرج السامع من شيءٍ إلى شيء، لم يكن لذلك النظام عنده موقع». ولما كان اهتمام الجاحظ متَّجهًا إلى المخاطب أو السامع على هذا النحو، فقد وضع في نظريته البيانية التي عمل على تأسيسها (المخاطب/ المتلقي) وأحواله النفسية والاجتماعية موضع الاعتبار الكامل، ولذلك نجده في كتاباته يلجأ إلى الاستطراد والتنويع في الأسلوب بهدف الترويح على المتلقي وشده إليه، حتى ولو أدَّى إلى الخروج عن الموضوع؛ ما يعني أنَّ الجاحظ لم يعرض لشروط إنتاج الخطاب المبين عرضًا منطقيًّا منظمًا؛ لإيثاره الطريقة البيانية الاستطرادية؛ حيث سار في كتابه «البيان والتبيين» حسب تصميم منطقي «مضمر»، منطلقًا من شروط «الإنتاج» الجيد أو المبين، إلى متطلبات الحصول على «الاستجابة».
مشاركة :