«حياة واحدة لاتكفي».. مقولة متداولة على نطاق واسع في أوساط دارسي الأدب باعتبارهم إياه شاهداً على مجريات التاريخ، وناقلا بمواصفات فوق عادية لأحداثه وتقلباته، فهم يعتبرون الأدب مصورا حقيقيا للمجتمعات بوقائعها وهمومها الفكرية والمادية. ويشكك بعضهم في نسبة وأصالة النصوص التي لاتحقق ذلك! وإن كان ثمة رأي في مسألة المعيارية في الأدب فإني أجد الأقرب إلى نفسي أن القيمة كلها لايستحقها إلا النص الذي ينجح في انتزاع المتلقي من واقعه المادي، ويزج به بين شخوص العمل، يفاخر ويهجو ويتغزل ويرثي، وكذا حين يجول به في عوالم الرواية والمسرح وغيرها.. ما سبق تهميش أضعه بعد آخر صفحات إحدى الروايات البوكرية لهذا العام: الحالة الحرجة للمدعو (ك) لعزيز محمد، بعد أن شعرت حقيقة باندماجي الكامل في فضائه الروائي، ووجدتني أصارع نفسي؛ لتكف عن افتراضات ومعالجات بلهاء! وأحاول جاهدا وضع حدٍّ للاستلاب الذهني الذي وقعت ضحية له، بعدها حاولت أن أسترجع النصوص التي تمكنت من إخضاعي لمثل هذه الحالة، فتدافعت إليّ مجموعة من العناوين في مواضيع وأجناس مختلفة لاجامع بينها سوى هذه السطوة المتمثلة في القدرة على إغراقك في عوالمها الافتراضية! وإلى حين، أعود إلى رواية عزيز حيث تدور حول شخصية مصاب بالسرطان، ينقل فيها تفاصيل حياته بدءا بيومياته الطبيعية، وانشغالاته وهمومه قبل اكتشاف المرض، وطريقة تعامله مع الشكوك المرافقة لمرحلة ظهور الأعراض والتحاليل الأولى، ومن ثم يتدرج في توصيف الأطوار اللاحقة والتي انتهت ببطل الرواية (ك) جسدا طريحا تقلبه الأيدي من سرير إلى آخر. مترقبا نهاية باهتة تخلصه من أوجاعه الجسدية والنفسية، إلى أن تحدث انفراجة خجولة تنتشله من غرف العناية المركزة وتقحمه في عالم الأثرياء بعد وصية غير متوقعة من جدّه! وأخيرا بعد أزيد من مئتي صفحة مليئة بالأوجاع يضع عزيز نهاية مرتبكة لروايته بعد أن يغادر بطلها المشفى المحلي في ظرف ملتبس، ويبدأ في إجراء بعض الترتيبات اللائقة بوضعه المادي الجديد، تنتهي بالاستعداد لرحلة استشفائية طويلة في بلاد الشرق الأقصى.. الرواية غارقة في السوداوية بتفاصيلها المأسوية التي جمعت الحالة الصحية للبطل مع وضعية نفسية غير مستقرة والتي جعلت منه شخصية عدائية منغلقة تتوجس من الجميع بدءا بعائلته وزملاء عمله ودراسته وحتى من الأطباء والممرضين! في حالة تبدو متناقضة مع شخصية البطل في جانبها الثقافي والوظيفي حيث بدا متفوقا في دراسته مهتما ومنشغلا بالقراءة الحرة في شتى العلوم والآداب.. هذا الزاد المعرفي كان من المنتظر أن يساهم في تشكيل شخصية المدعو (ك) في جانبها النفسي والسلوكي، كما انعكس على لغته وأسلوبه الحكائي السلس الذي امتاز بالتلقائية في سرد الأحداث بنفس فكاهي ساخط! إلا أن تلك السلاسة لم تسعف عزيز في تطوير أحداث الرواية وإحكام حبكتها، فقد ظل يسير بشخوصه وأحداثه في مسار واحد دون إحداث أي تغيير مفاجئ يخرج العمل عن الرتابة والتكرار.. وعودا على بدء ففي هذه القراءة السريعة حاولت أن أقف على مسوغ ترشيح الرواية للبوكر، وما تميزت به عن غيرها، فلم أجد بعد ملمحها الإنساني في موضوعها سوى نجاحها الباهر في استخدام ما يمكن أن يسمى بتقنية الاستلاب أو «التجربة بالإنابة» كما تسمى عند آخرين، ولا أعرف تركيبا مصطلحيا دقيقا لتوصيف حالة التداخل الذهني الرهيب في النص بين شخصيات الروائي والبطل والمتلقي! وفي خضم قضايا الجوائز والترشيحات وجدل الأحقية والاستحقاق أتساءل عن جدوى إضافة هذا المعيار واعتماده كمرجح بين الأعمال الإبداعية؟.
مشاركة :