كتب كافكا في رسالة لصديقة أوسكار بولاك يقول فيها «إننا نحتاج إلى الكتب التي تنزل علينا كالبلية التي تؤلمنا، كموت من نحبه أكثر من أنفسنا، التي تجعلنا نشعر وكأننا طردنا إلى الغابات بعيداً عن الناس، مثل الانتحار، على الكتاب أن يكون كالفأس التي تهشم البحر المتجمد في داخلنا». لكن يا ترى أي تلك الكتب التي تتفاعل معها أحاسيسنا ومشاعرنا بقوة؟ هل هي الكتب السوداوية الحزينة؟ أم الفلسفية، أم الرويات العظيمة؟ يعترف الكاتب عبدالمجيد حسن في كتابه المشترك مع كاتب آخر بعنوان (٢٧ خرافة شعبية عن القراءة) أنه كان يكره قراءة الروايات لأنها مضيعة للوقت، وهكذا كنت أعتقد شخصياً قبل أن أقع في غرام الرواية، فقد تكرر على مسامعنا أن الروايات لا تضيف إلى عقلنا شيئاً، بينما الروايات ليست قصصاً مطولة فحسب، بل هي عالم يحتوي على بشر مثلنا، نرى أنفسنا فيهم ونتفاعل معهم، لأنها مبنية على عالم واقعي مختلق من قبل الكاتب، ويكون ذلك عبر التعاطف مع بعض الشخصيات الواردة في تلك الروايات، هذا التعاطف الذي هو إحدى سمات الذكاء العاطفي الذي يجعلنا أشخاصاً أكثر نجاحاً في حياتنا الفعلية، من خلال معايشة مشاعر شخوص الرواية دون أن نكون مررنا بها فعلياً، ونستطيع أن نفهم أفعالهم ونحس بمشاعرهم التي قد يتفنن الكاتب في وصفها كما فعل الكاتب السعودي عزيز محمد في (الحالة الحرجة للمدعو ك) والصادرة عن دار التنوير 2017م. صيغة الرواية أشبه بالمذكرات الأسبوعية على مدى أربعين أسبوعاً في حياة المدعو (ك)، الذي يعاني من عزلة نفسية، ويكرر الشكوى من كل شيء حوله، يسخر حتى من نفسه، يعيش حالة لا مبالاة غريبة، يحيى دون هدف ويمارس تمرداً باهتاً، يعاني من وحشة كل الأماكن، ويلجأ للخيال ليقاوم البؤس الذي يشعر به، يصاب بالسرطان، باختصار المدعو (ك) وحيد جد حتى مع نفسه، فهو غريب عنها، روحه متهكمة سوداوية وساخرة في ذات الوقت، تكاد تشعر بمرارة الكلمات المكتوبة على لسانه، وهو يعاني على مدار تلك الأسابيع والصفحات، صفحة تلو أخرى وأسبوعاً بعد آخر. هذه الرواية التي لم أمتلك الشجاعة أن أقرأها في عزلتي ومكاني المعتاد للقراءة، بل جلست على كرسي قريب من غرفة أمي - حفظها الله - وكأني أنشد الأمان في قربي منها ومن هذا الكتاب الذي أشعرني بالخوف والضيق لعل قربها يخفف ثقل تلك المشاعر التي يصفها الكاتب عن السرطان والموت والألم الشديد. يصف المدعو (ك) نفسه وهو في مراحل المرض الأخيرة كجثة هامدة تحت الملاءة على سرير المرض، يرجع أسباب مشكلته لحالة الاستغناء، حيث أقصى نفسه عن الآخرين ليحميها من مسببات التأثر، ويلوم نفسه بقناعة زائفة عن القوة التي يملكها لأعوام عديدة وهو مبتعد عن الجميع حتى ذاته، لتتراكم الأحداث على قلبه كالران حتى أشدها ضآلة. قررت أن أنتهي من تلك الرواية بأسرع ما يمكن، ولابد أن أمي لاحظت تغير ملامح وجهي لأنها فاجأتني بسؤالها: ماذا تقرئين؟ ولم أمتلك الشجاعة لأعترف بأني أقرأ كتاباً عن السرطان فهي دائماً تحذرني من قراءة الكتب الحزينة، فما كان منها إلا أن طلبت مني الجلوس مستقيمة الظهر وشرب كوب العصير المنسي بقربي، لأبقى مع هذا البطل المدعو (ك)، ومع حياته البائسة حتى قبل إصابته بالسرطان، علاقاته السيئة ومعاركه الجانبية مع من حوله وإصرارهم على تعذيبه بالزيارات الأسبوعية، وإشعاره بالذنب لأنه مريض، فقد أربك مرضه مخططاتهم، بالإضافة إلى مشكلاته مع العمل والتأمين الصحي والتقاعد وزملائه. إلى أن وصلت إلى الصفحات الأخيرة الأكثر إيلاماً، فذهبت بهدوء بعيداً عن عيني أمي، فقد كدت أن أبكي وأعترف لها بأنه مريض جداً وقد يموت في أي صفحة، فأنا لا أريد أن ترى دموعي تنهار على صفحات كتاب مؤلم. السرطان، مرض العصر، تكمن صعوبته بأن تكون في مواجهة غير متكافئة مع مرض يأكل جسدك من الداخل، ولا تعرف أي حرب تلك التي تخوضها، وأنت لا تمتلك رفاهية الاستسلام فالقرار ليس بيدك تماماً، فتجد نفسك خاسراً في الحالتين، فجسدك هو من صنع تلك الخلايا الشريرة التي تتكاثر بداخلك، كيف إذن تحارب جسدك؟ كيف تكون طرفي المعركة التي لا رابح فيها، بل خاسر واحد هو أنت. أن أفضل طريقة للنجاة من السرطان هي عدم الإصابة به أصلاً. الجدير بالملاحظة أن طوال الرواية لم يذكر اسم أحد، فالمدعو (ك) قلق باستمرار، يعاني من عدم تقدير الذات وعدم الانتماء، يخاف دوماً من حكم الآخرين عليه منذ الطفولة، فالأشخاص لهم ألقاب فقط، مثال على ذلك جده الذي يصفه بأبي الهول، وزميله في المكتب الذي يطلق عليه ربطة العنق، هو غريب حتى عن نفسه وإخوته وأمه وزملائه في العمل، فجميعهم دون أسماء، دون انتماءات دينية دون انتماءات سياسية وبعيداً جداً عن الوقوع في الحب. كل كتاب نقرؤه يدعو إلى التفكير وفي رأيي ليس من الضرورة أن يمدنا كل كتاب بالمعرفة أو المتعة، فالقراءة بحد ذاتها تجربة ثرية لا بد أن تضيف لحياتنا، وكما يقول أمبرتو إيكو «إن الكتب تتحدث دائماً عن كتب أخرى، وكل قصة تروي قصة أخرى سبق أن رويت»، فأنت لا تكون ذات الشخص بعد الانتهاء من كتاب تفاعلت معه بمشاعرك، وجعلك تتوقف عند سطوره. يقول عزيز محمد على لسان المدعو (ك) «رحت أتزود بالمعرفة كي أحيط مبكراً بكل ما يدركه الآخرون بعد فوات الأوان، خوفاً من غدر الزمن كما فعل بالآخرين». جعلتني تلك الجملة أتوقف لأفكر ملياً وأتأمل جدوى سبق أقرانك بالفهم لتكون أكثر نضجاً، الحلم أن تكون إنساناً عظيماً، ثم لا يعدو ذلك إلا أن يكون حلماً من أحلام الشباب المتفائل، لتنهار أحلامه بالوظيفة الروتينية والاجتماعات البائسة، التي يحضرها مجبراً مع زملائه الموظفين، حين يكون الصمت من حوله مع صخب الأفكار بداخله. أولئك المتسلقين الذين يتنافسون بالاستعراض الغبي ليحضوا برضا المدير، فاختار المدعو (ك) الترفية عن نفسه بتأليف قصة قصيرة في ذهنه وبدلاً من أن يسمي (قاعة المؤتمرات) أسماها (قاعة المؤامرات). ترشحت رواية (الحالة الحرجة للمدعو «ك») ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر 2018.
مشاركة :