شاهدت أمس فيديو عبر الإنترنت لمجموعة أطفال أجانب لا يتجاوز أعمارهم العاشرة، بدأ المذيع يصب على أذانهم مجموعة من الأسئلة، وطلب منهم الإجابة عليها بتلقائية ودون إعداد مسبق، امتثل الأطفال -ببرائتهم المعهودة- لأوامره، وشرع الاختبار بسؤال تلو الآخر ومنها: الاسم، السن، أي صف دراسي ينتمى، وفي أي مدرسة يلتحق بها الآن.. الخ.صار الفيديو على هذا الحال قرابة الربع ساعة قبل أن تأتى فتاة في العشرين من عمرها، استطاعت أن تقلب مسار الفيديو رأسا على عقب، وتحول إيقاع الأحداث من الرتابة إلى التشويق، فقد كان المذيع ذكيا لم يرم ما يقصده من حضور الفتاة مباشرة، إنما أراد أن يضع السم في العسل، وسأل الأطفال جميعهم: هل من الممكن أن تداعب هذه الفتاة.ارتسمت ابتسامة يشوبها الخجل على محياهم، وبدأ كل واحد يداعبها بالطريقة التي تروق له فمنهم: من لامس خديها، وآخرون تلاعبوا بخصلات شعرها التى -تشبه السلاسل الذهبية- في رقة دون أن يسبب أي ضيق أو حرج للفتاة.وجاء سؤال المذيع الأخير في فزع انخلع قلوب الأطفال عندما سمعوه، وسأل كل طفل بمعزل عن الآخر: هل لك أن تصفعها؟!فغر له فاه واتسعت عيناه وهز رأسه نافيا وقال: لا.. لن أقدر على فعل ذلكوالجدير بالذكر أن المذيع قد استخدم كل وسائل الضغط، ولجأ إلى كافة المغريات قبل أن يطرح السؤال، وتابع بعد أن ألقي عليهم السؤال أساليب تشى بالتحذير والتهديد ومنها: أنه سيعتبره خارج المنافسة، وأنه الطفل الوحيد الخاسر في هذه المسابقة، وأن زملاءه سيحصلون على الجائزة الكبرى لأنهم التزموا بتعليمات المسابقة دون أن يخلوا بأي شرط من شروطها.وفي النهاية انتصر الأطفال واجتموا على كلمة واحدة "No"، ولم يستطع المذيع أن يصمد أكثر من ذلك أمام عنادهم ورفضهم البات لصفعها، وأخبرهم جميعا أنهم اجتازوا الأسئلة بنجاح ساحق عدا السؤال الأخير لم ينفذه أحد منهم.تعالت ضحكات الأطفال وشعروا بسعادة غامرة، باغتهم المعلم بسؤال: هل سر هذه الفرحة العارمة أنكم حصلتم على درجات متساوية بشأن الاختبار؟!أجاب أحدهم دون أن يسأل البقية: لا، إنما لأننا لم نصفع الفتاة كما طلبت منا؟لاحت شبح الابتسامة على شفتيه، ونظر إليهم نظرة فخر، وتوجه إليهم بالمكافأة المتفق عليها، وشكرهم على حسن تصارفهم تجاه السؤال الأخير.لم أكن أتخيل ردة فعل هؤلاء الأطفال حيال صفع الفتاة، كنت أظن أنهم سينهالوا عليها بالصفع واحدًا تلو الآخر، وما العجب في ذلك فأنا من عالم يصفع فيه الأطفال الكبار سواء كان رجلا أو فتاة، من عالم يبصق الصغار على غيرهم تلبية لأوامر أمهاتهم، بعدما تضحك ضحكة صفراء لتخبر من حولها أن ابنها يتسم بعلامات الذكاء لأنه نفذ أمرها للتو دون أن تكرر طلبها له، وهي تجهل أن هذا الأمر لا يمت للذكاء بصلة إنما يدل على عدم احترام الآخرين وإساءة تربية ستتحمل عواقبها فيما بعد عندما يصبح شابا.استوقفني إجابة أحد الأطفال عندما سأله معلمه عن سبب الرفض قال بنبرة حاسمة: لأنى رجل.أصابتني حالة من الدهشة الممزوجة بالحيرة عندما سمعت إجابته، وتساءلت: كيف يدرك مفهوم الرجولة وهو في هذا العمر الصغير؟!، فقد استطاع أن يضرب مثلا قويًا لمفهوم الرجولة ورفض صفع الفتاة خلال الفيديو، فهو لم يحفظ الكلمة ويرددها كالببغاء، إنما تجلت وحدها من خلال أفعاله وتصرفاته التى تصدر منه حيال الجنس الآخر.ألم يعلم هذا الطفل أنه مازال في عالمنا أشخاص من عمر أبيه يصفعون، وينهرون، ويضربون ويشتمون، ويهينون أمهاتهم وزوجاتهم وأخواتهم دون رأفة أو رحمة ظنا منهم أنهم يمارسون رجولتهم المزعومة، والرجولة تتبرأ من أفعالهم المشينة وتصرفاتهم البذيئة؟!.فنحن نحتاج إلى بعثة من الأطفال تأتى إلى عالمنا لتخبر هؤلاء الأشخاص أنهم ذكور وليسوا رجالا.. فالأمر لا يتعلق من كونهم أطفال أجانب ينتمون إلى العالم الأول، بينما نحن العرب ننتمي إلى العالم الثالث، ولا يرتبط بظروف اقتصادية وأحوال معيشية، إنما يتعلق بآداب التربية فالطفل الذي رفض صفع الفتاة لم يختر عالمه، إنما ولد ليجد نفسه في أسرة سوية يرى بعينيه تصرفات أبيه مع أمه، معاملة أخوه لأخته، يسير على خطى أفراد أسرته ويتبع نهجهم، نشأ على اللطف وحسن المعاملة لا على الإهانة والصوت العالي.الفرق بين الذكورة والرجولة كالفرق بين السماء والأرض.. الذكورة: قوة جسمانية تستخدمها على من هم أضعف منك تلبية لاحتياجاتك،لا جدوى من أوامر ينقصها الاحترام ويشوبها الكراهية يتم تنفيذها بدافع تجنب الأذي لا بدافع الحب والتقدير.الرجولة: أسلوب حياة قوامها احترام الآخر وحسن معاملته وتقديره، استيعاب لأنثي يعلم جيدا أنه لا يجوز له صفعها لأن ذلك يسقطه من نظرها ويقلل من شأنه أمامها، إنما المسألة تقوم على احتوائها والرفق بها وحمايتها من أذى خارجي وتحويل مسكنها من مكان محاط بأربع جدران إلى وطن تنعم فيه بالأمان والاستقرار.
مشاركة :